الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وقد ذكرنا جملة من الأخبار في كتاب آداب الكسب تكشف عن فضيلة الكسب الحلال .

وأما الآثار فقد ورد أن الصديق رضي الله عنه شرب لبنا من كسب عبده ثم سأل عبده ، فقال : تكهنت لقوم فأعطوني فأدخل أصابعه في فيه وجعل يقيء حتى ظننت أن نفسه ستخرج ثم قال : اللهم إني أعتذر إليك مما حملت العروق وخالط الأمعاء .

وفي بعض الأخبار أنه صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك ، فقال أو : علمتم .

أن الصديق لا يدخل جوفه إلا طيبا وكذلك شرب عمر رضي الله عنه من لبن إبل الصدقة غلطا فأدخل إصبعه وتقيأ وقالت عائشة رضي الله عنها : إنكم لتغفلون عن أفضل العبادة هو الورع وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنه : لو صليتم حتى تكونوا كالحنايا وصمتم حتى تكونوا كالأوتار لم يقبل ذلك منكم إلا بورع حاجز .

وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله ما أدرك من أدرك إلا من كان يعقل ما يدخل جوفه .

التالي السابق


(وقد ذكرنا جملة من الأخبار) الواردة (في الباب في كتاب آداب الكسب) الذي تقدم قبل هذا، (تكشف عن فضيلة كسب الحلال ) ، فليراجع هناك (وأما الآثار فقد روي أن) أبا بكر (الصديق رضي الله عنه شرب لبنا من كسب عبده ثم سأل عنه) ، أي: عن اللبن (العبد من أين اكتسبه، فقال: تكهنت لقوم) أخبرتهم عن بعض الأمور المغيبة، (فأعطوني) إياه، (فأدخل) الصديق (أصبعه في فيه وجعل يقيء حتى ظننت أن نفسه ستخرج، وقال: اللهم إني أعتذر إليك مما حملت العروق وخالط الأمعاء) ، هكذا هو في القوت .

قال العراقي : رواه البخاري من حديث عائشة : "كان لأبي بكر غلام يخرج له الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء يوما بشيء، فأكل منه أبو بكر ، فقال له الغلام: أتدري ما هذا؟ فقال: وما هو؟ قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية.... فذكره اهـ .

قلت: وقال أبو نعيم في الحلية: حدثنا أبو عمرو بن حمدان ، حدثنا الحسن بن سفيان ، حدثنا يعقوب بن سفيان ، حدثنا عمرو بن مضمر البصري ، حدثنا عبد الواحد بن زيد عن أسلم الكوفي عن مسرف الطيب ، عن زيد بن أرقم قال: "كان لأبي بكر مملوك يغل عليه فأتاه ليلة بطعام، فتناول منه لقمة، فقال له المملوك: ما لك كنت تسألني كل ليلة ولم تسألني الليلة، قال: حملني على ذلك الجوع، من أين جئت بهذا؟ قال: مررت بقوم في الجاهلية فرقيت لهم، فوعدوني، فلما كان اليوم مررت بهم فإذا عرس لهم فأعطوني، قال: أف لك، كدت أن تهلكني، فأدخل يده في حلقه فجعل يتقيأ، وجعل لا يخرج فقيل له: إن هذه لا تخرج إلا بالماء، فدعا بعس من الماء فجعل يشرب ويتقيأ حتى رمى بها، فقيل له: رحمك الله، كل هذا من أجل هذه اللقمة، فقال: لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كل جسد نبت من سحت، فالنار أولى به، فخشيت أن ينبت شيء من جسدي من هذه اللقمة" . ورواه عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة نحوه، والمنكدري محمد بن المنكدر عن أبيه عن جابر نحوه، ثم قال صاحب القوت: (وفي بعض الأخبار أنه عليه السلام أخبر بذلك، فقال: أوما علمتم أن الصديق لا يدخل جوفه إلا طيبا ) . وفي بعض النسخ: لما أخبر بذلك قال: قال العراقي : لم أجده، (وكذلك لما شرب عمر) بن الخطاب (رضي الله عنه لبنا من إبل الصدقة غلطا) فعلم بذلك (فأدخل أصبعه) في فيه (وتقيأ) ، وهذا رواه مالك من طريق زيد بن أسلم قال: "شرب عمر لبنا فأعجبه فسأل الذي سقاه: من أين لك هذا اللبن؟ فأخبره: إنه ورد على ماء قد سماه، فإذا نعم من نعم الصدقة وهم يسقون فحلبوا إلي من ألبانها فجعلته في سقائي فهو هذا، فأدخل عمر يده فاستقاءه وكل هذا من الورع .

( وقالت عائشة رضي الله عنها: إنكم لتغفلون عن أصل العبادة والورع ) ; لأن الورع يوجب دوام المراقبة للحق وإدامة الحذر والمراقبة تورث المشاهدة ودوام الحذر يعقب النجاة والظفر، فإذا كان أصل العبادة، ويروى نحوه: الورع سيد العمل، من لم يكن له ورع يصده عن المعصية إذا خلا بها لم يعبأ الله بسائر عمله" . رواه الحكيم الترمذي (وقال عبد الله بن عمر) بن الخطاب (رضي الله عنهما: لو صليتم حتى تكونوا كالحنايا) جمع حنية وهي القوس (وصمتم حتى تكونوا كالأوتار) ، أي: في النحافة [ ص: 11 ] والرقة (ما تقبل منكم ذلك إلا بورع حاجز) أي: مانع يمنعكم من الوقوع في معاصي الله تعالى إذا خلوتم. أورده صاحب القوت، (وقال إبراهيم بن أدهم ) رحمه الله تعالى (لم يدرك من أدرك إلا من كان يعقل ما يدخل جوفه) ، ولفظ القوت: وروينا عن إبراهيم بن أدهم عن الفضيل بن عياض قال: لم ينبل من نبل بالحج ولا بالجهاد، ولا بالصوم والصلاة، وإنما نبل عندنا من كان يعقل ما يدخل جوفه، يعني الرغيفين من حله ، وهو في الحلية لأبي نعيم بسنده إلى عبد الصمد بن يزيد قال: سمعت شقيقا البلخي يقول: لقيت إبراهيم بن أدهم في بلاد الشام ، فقلت: يا إبراهيم ، تركت خراسان ؟ فقال: ما تهنيت بالعيش إلا في بلاد الشام ، أفر بديني من شاهق إلى شاهق، فمن يراني يقول: موسوس، ثم قال: يا شقيق لم ينبل عندنا من نبل بالحج ولا بالجهاد، وإنما نبل عندنا من نبل من كان يعقل ما دخل جوفه، يعني: الرغيفين من حله .




الخدمات العلمية