الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الباب الثاني في فوائد العزلة وغوائلها وكشف الحق في فضلها .

اعلم أن اختلاف الناس في هذا يضاهي اختلافهم في فضيلة النكاح والعزوبة .

وقد ذكرنا أن ذلك يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص بحسب ما فصلناه من آفات النكاح وفوائده فكذلك القول فيما نحن فيه .

فلنذكر أولا فوائد العزلة وهي تنقسم إلى : فوائد دينية ودنيوية، .

والدينية تنقسم إلى : ما يمكن من تحصيل الطاعات في الخلوة والمواظبة على العبادة والفكر وتربية العلم وإلى تخلص من ارتكاب المناهي التي يتعرض الإنسان لها بالمخالطة كالرياء والغيبة والسكوت عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومسارقة الطبع من الأخلاق الرديئة والأعمال الخبيثة من جلساء السوء .

وأما الدنيوية فتنقسم إلى : ما يمكن من التحصيل بالخلوة كتمكن المحترف في خلوته إلى ما يخلص من محذورات يتعرض لها بالمخالطة كالنظر إلى زهرة الدنيا وإقبال الخلق عليها وطمعه في الناس وطمع الناس فيه ، وانكشاف ستر مروءته بالمخالطة والتأذي بسوء خلق الجليس في مرائه أو سوء ظنه أو نميمته أو محاسدته أو التأذي بثقله وتشويه خلقته .

وإلى هذا ترجع مجامع فوائد العزلة فلنحصرها في ست فوائد .

الفائدة الأولى .

التفرغ للعبادة والفكر والاستئناس بمناجاة الله .

تعالى عن مناجاة الخلق والاشتغال باستكشاف أسرار الله تعالى في أمر الدنيا والآخرة وملكوت السموات والأرض فإن ذلك يستدعي فراغا ولا فراغ مع المخالطة فالعزلة وسيلة إليه .

ولهذا قال بعض الحكماء : لا يتمكن أحد من الخلوة إلا بالتمسك بكتاب الله تعالى .

والمتمسكون بكتاب الله تعالى هم الذين استراحوا من الدنيا بذكر الله الذاكرون الله بالله عاشوا بذكر الله وماتوا بذكر الله ولقوا الله بذكر الله .

ولا شك في أن هؤلاء تمنعهم المخالطة عن الفكر والذكر فالعزلة أولى بهم .

ولذلك كان صلى الله عليه وسلم في ابتداء أمره يتبتل في جبل حراء وينعزل إليه حتى قوي فيه نور النبوة .

فكان الخلق لا يحجبونه عن الله فكان ببدنه مع الخلق وبقلبه مقبلا على الله تعالى حتى كان الناس يظنون أن أبا بكر خليله .

فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن استغراق همه بالله فقال : لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن صاحبكم خليل الله .

ولن يسع الجمع بين مخالطة الناس ظاهرا والإقبال على الله سرا إلا قوة النبوة فلا ينبغي أن يغتر كل ضعيف بنفسه فيطمع في ذلك ولا يبعد أن تنتهي درجة بعض الأولياء إليه .

فقد نقل عن الجنيد أنه قال : أنا أكلم الله منذ ثلاثين سنة والناس يظنون أني أكلمهم .

وهذا إنما يتيسر للمستغرق بحب الله استغراقا لا يبقى لغيره فيه متسع وذلك غير منكر ففي المشتهرين بحب الخلق من يخالط الناس ببدنه وهو لا يدري ما يقول ولا ما يقال له لفرط عشقه لمحبوبه .

بل الذي دهاه ملم يشوش عليه أمرا من أمور دنياه فقد يستغرقه الهم بحيث يخالط الناس ولا يحس بهم ولا يسمع أصواتهم لشدة استغراقه .

وأمر الآخرة أعظم عند العقلاء فلا تستحيل ذلك فيه ولكن الأولى بالأكثرين الاستعانة بالعزلة .

ولذلك قيل لبعض الحكماء ما الذي أرادوا بالخلوة واختيار العزلة فقال يستدعون ؟ : بذلك دوام الفكرة وتثبت العلوم في قلوبهم ليحيوا حياة طيبة ويذوقوا حلاوة المعرفة .

وقيل لبعض الرهبان ما أصبرك على الوحدة ! فقال : ما أنا وحدي ، أنا جليس الله تعالى إذا شئت أن يناجيني قرأت كتابه وإذا شئت أن أناجيه صليت .

وقيل : لبعض الحكماء إلى أي شيء أفضى بكم الزهد والخلوة؟ فقال : إلى الأنس بالله .

وقال سفيان بن عيينة لقيت إبراهيم بن أدهم رحمه الله في بلاد الشام فقلت له : يا إبراهيم تركت خراسان فقال : ما تهنأت بالعيش إلا ههنا أفر بديني من شاهق إلى شاهق فمن يراني يقول موسوس أو حمال أو ملاح .

وقيل لغزوان الرقاشي هبك لا تضحك فما يمنعك من مجالسة إخوانك ? قال : إني أصيب راحة قلبي في مجالسة من عنده حاجتي .

وقيل للحسن يا أبا سعيد ههنا رجل لم تره قط جالسا إلا وحده خلف سارية .

فقال الحسن : إذا رأيتموه فأخبروني به فنظروا إليه ذات يوم فقالوا للحسن : هذا الرجل الذي أخبرناك به وأشاروا إليه فمضى إليه الحسن وقال له .

: يا عبد الله أراك قد حببت إليك العزلة فما يمنعك من مجالسة الناس ? فقال : أمر شغلني عن الناس ، قال : فما يمنعك أن تأتي هذا الرجل الذي يقال له الحسن فتجلس إليه فقال : أمر شغلني عن الناس .

وعن الحسن فقال له الحسن وما ذاك الشغل يرحمك الله فقال ؟ : إني أصبح وأمسي بين نعمة وذنب فرأيت أن أشغل نفسي بشكر الله تعالى على النعمة والاستغفار من الذنب فقال ، له الحسن : أنت يا عبد الله أفقه عندي من الحسن فالزم ما أنت عليه .

وقيل : بينما أويس القرني جالس إذ أتاه هرم بن حيان فقال له أويس : ما جاء بك ? قال : جئت لآنس بك ، فقال أويس : ما كنت أرى أن أحدا يعرف ربه فيأنس بغيره وقال الفضيل إذا رأيت الليل مقبلا فرحت به وقلت : أخلو بربي وإذا رأيت الصبح أدركني استرجعت كراهية لقاء الناس وأن يجيئني من يشغلني عن ربي .

وقال عبد الله بن زيد طوبى لمن عاش في الدنيا وعاش في الآخرة ، قيل له : وكيف ذلك ? قال : يناجي الله في الدنيا ويجاوره في الآخرة .

وقال ذو النون المصري سرور المؤمن ولذته في الخلوة بمناجاة ربه .

وقال مالك بن دينار من لم يأنس بمحادثة الله عز وجل عن محادثة المخلوقين فقد قل علمه وعمي قلبه وضيع عمره .

وقال ابن المبارك ما أحب حال من انقطع إلى الله تعالى. ويروى عن بعض الصالحين أنه قال بينما : أنا أسير في بعض بلاد الشام إذا أنا بعابد خارج من بعض تلك الجبال فلما نظر إلي تنحى إلى أصل شجرة وتستر بها فقلت : سبحان الله ! تبخل علي بالنظر إليك ? فقال : هذا إني أقمت في هذا الجبل دهرا طويلا أعالج قلبي في الصبر عن الدنيا وأهلها فطال في ذلك تعبي وفني فيه عمري فسألت الله تعالى أن لا يجعل حظي من أيامي في مجاهدة قلبي فسكنه الله عن الاضطراب وألفه الوحدة والانفراد، فلما نظرت إليك خفت أن أقع في الأمر الأول فإليك عني فإني أعوذ من شرك برب العارفين وحبيب القانتين ثم صاح واغماه من طول المكث في الدنيا ثم حول وجهه عني ثم نفض يديه وقال : إليك عني يا دنيا لغيري فتزيني وأهلك فغري ثم قال : سبحان من أذاق قلوب العارفين من لذة الخدمة وحلاوة الانقطاع إليه ما ألهى قلوبهم عن ذكر الجنان وعن الحور الحسان وجمع همهم في ذكره فلا شيء ألذ عندهم من مناجاته ثم مضى وهو يقول : قدوس قدوس .

التالي السابق


(الباب الثاني في بيان العزلة وغوائلها وكشف الحق عن فضلها)

(اعلم أن اختلاف الناس فيها) أي: في العزلة مع الخلطة (يضاهي) أي: يشابه (اختلافهم في فضيلة النكاح والعزوبة وقد ذكرنا) في كتاب النكاح (أن ذلك يختلف بالأحوال والأشخاص بحسب ما فصلناه من آفات النكاح وفوائده) في الكتاب المذكور (فذلك القول فيما نحن فيه) في هذا الباب (فلنذكر أولا فوائد العزلة وهي تنقسم: إلى فوائد دينية و) فوائد (دنيوية و) الفوائد (الدينية تنقسم إلى: ما يمكن بالخلوة [ ص: 341 ] من تحصيل الطاعات في الخلوة بالمواظبة) أي: المداومة (على العبادة) المأمور بها (والفكر) في آلاء الله تعالى (وتربية العلم) بالمطالعة والقراءة (وإلى تخلص من ارتكاب المناهي التي يتعرض الإنسان إليها) وفي نسخة: فيه (بالمخالطة) مع الناس (كالرياء والغيبة والسكوت عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومسارقة الطبع من الأخلاق الردية والأعمال الخبيثة من الجلساء السوء) وقرناء الشر؛ ففي المثل: الطبع سراق (وأما الدنيوية فتنقسم إلى: ما يمكن من التحصيل بالخلوة كتمكن المحترف) أي: المكتسب (في خلوته وإلى ما يخلص) وفي نسخة: وإلى تخلص (من محذورات يتعرض لها بالمخالطة كالنظر إلى زهرة الدنيا) أي: متاعها (وإقبال الخلق عليها وطمعه في الناس وطمع الناس فيه، وانكشاف ستر مروءته بالمخالطة) مع الخلق (والتأذي بسوء خلق الجليس) أي: المجالس له والمخالط (في مرائه) أي: رؤيته (أو سوء ظنه أو نميمته أو محاسدته) في نعمة أوتيها (أو التأذي بثقله) وفي نسخة: لثقله (وتشوه خلقه) أي: تغيرها .

(فإلى هذا يرجع مجامع فوائد العزلة فلنحصرها في ستة فوائد) أي: نذكرها محصورة فيها (الفائدة الأولى الفراغ للعبادة والتفكر) وفي نسخة: الفكر (والاستئناس بمناجاة الله سبحانه) أي: محادثته سرا (عن مناجاة الخلق) أي: معرضا عنها (والاشتغال باستكشاف أسرار الله تعالى) من أفلاك ونجوم ونبات وأشجار وجبال وفجاج وغير ذلك (فإن ذلك) أي: التفكر في كل ذلك (يستدعي فراغا) للمخاطر ليترشح لكشف ذلك (ولا فراغ مع المخالطة) إذ يرد على الخواطر ما يتكدر عليها (فالعزلة وسيلة إليه) أي: إلى الفراغ (ولهذا قال بعض الحكماء: لا يتمكن أحد من الخلوة إلا بالتمسك بكتاب الله عز وجل) ولا يتم التمسك إلا بمعرفة أسراره الظاهرة والباطنة (والمتمسكون بكتاب الله هم الذين استراحوا من) أشغال (الدنيا بذكر الله) حتى صار قوتا لأرواحهم وعمادا لقوتهم (الذاكرون الله بالله) المستهترين فيه (عاشوا بذكر الله وماتوا بذكر الله ولقوا الله بالله) فكان عيشهم به سعيدا وموتهم حميدا ولقاؤهم عيدا ورأوا ما أملوه قريبا؛ إذ رأى غيرهم بعيدا (ولا شك في أن هؤلاء تمنعهم المخالطة) مع الخلق (عن الفكر والذكر) والمراقبة (فالعزلة أولى بهم) وهذا أول ملاحظ السادة النقشبندية وكان شيخ المصنف أبو علي الفارمدي الطوسي على هذا المقام .

(ولذا كان -صلى الله عليه وسلم- في ابتداء أمره) قبل نزول الوحي إليه (يتبتل) أي: يتفرغ للعبادة وينقطع لها (في) غار من (جبل حراء) بكسر الحاء ممدود ويفتح مع القصر، قال عياض: يمد ويقصر ويذكر ويؤنث ويصرف ولا يصرف والتذكير أكثر، فمن ذكره صرفه ومن أنثه لم يصرفه على إرادة البقعة أو الجهة التي فيها الجبل، وقال الخطابي: يخطئون في حراء في ثلاثة مواضع: يفتحون الحاء وهي مكسورة ويكسرون الراء وهي مفتوحة ويقصرون الألف وهي ممدودة، وقال التيمي في شرح البخاري: العامة لحنت في ثلاثة مواضع: فتح الحاء وقصر الألف وترك صرفه وهو مصروف في الاختيار لأنه اسم جبل .

قال الكرماني بعد نقله عنهما: إذا جمعنا بين كلاميهما يلزم اللحن في أربعة مواضع، وهو من الغرائب؛ إذ بعدد كل حرف لحن، وقال العيني: ولقائل أن يقول: إن كسر الراء ليس بلحن فإنه بطريق الإمالة. وحراء بينه وبين مكة ثلاثة أميال إذا سرت إلى منى له قنة مشرفة إلى الكعبة (وينعزل إليه) أي: ينقطع عن الناس بمجاورته، وسبب تخصيصه به دون جبال مكة؛ لأنه كان يرى بيت ربه منه وهو عبادة، قاله ابن أبي جرة، وهذا قد رواه البخاري في أول الصحيح من حديث عائشة بلفظ: وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه - وهو التعبد- الليالي ذوات العدد قبل أن ينتزع إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة. الحديث. ورواه أيضا في التفسير والتعبير، ورواه مسلم في الإيمان والترمذي والنسائي في التفسير .

(حتى قوي فيه نور النبوة) يشير إلى ما وقع في الحديث المذكور عند البخاري حتى جاءه الحق وهو في غار حراء [ ص: 342 ] (فكان الخلق لا يحجبونه عن الله فكان ببدنه مع الخلق) في المخالطة (وبقلبه مقبلا على الله تعالى) وفي أثناء ذلك كانت تحصل له تفرقة بسبب فترة الوحي فكاد أن يتردى من رءوس الجبال وذلك لغلبة الأشواق، وكانت رؤية جبريل -عليه السلام- تخفف عنه ألم الشوق في الجملة؛ لأنه السفير بين المحب والحبيب، فإذا أبطأ عنه الرسول خاف الانقطاع في الوصول فيهم بإتلاف مهجته فيعلم صدق محبته فيتراءى له ويقول: يا محمد، أنت رسول الله. فيعلم أن العلقة باقية فيسكن قلبه وتقر عينه .

(حتى كان الناس يظنون أن أبا بكر) الصديق (رضي الله عنه) لكثرة العلاقة المعنوية بينه وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- (خليله) الذي دخل وده شغاف قلبه (فأخبر -صلى الله عليه وسلم- عن) مقامه الذي هو فيه من (استغراق همه بالله) واستيلائه بكله حتى لم يبق فيه متسع للغير (فقال: لو كنت متخذا) أحدا (خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا لكن صاحبكم خليل الله) رواه مسلم من حديث ابن مسعود بلفظ: لو كنت متخذا خليلا لاتخذت ابن أبي قحافة خليلا ولكن صاحبكم خليل الله -عز وجل-. وهكذا رواه الطبراني وابن عساكر من حديث أبي واقد وفي لفظ لمسلم: لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكنه أخي وصاحبي وقد اتخذ الله صاحبكم خليلا. وقد تقدم في الكتاب الذي قبله .

(ولن يسع الجمع بين مخالطة الخلق ظاهرا والإقبال على الله سرا إلا قوة النبوة) إذ لها وجه إلى خلق من حيث تبليغ الأحكام إلى الأنام ووجه إلى الحق من حيث المثول بين يديه والاستئناس بالقرب، فالوجه الأول هو وجه النبوة، والثاني هو وجه الولاية، وهي سر النبوة وخلاصها، فقول من قال: الولاية أفضل من النبوة إنما يعني بها ولاية النبوة، وقد جمع له -صلى الله عليه وسلم- بين الوجهين في آن واحد (فلا ينبغي أن يغتر كل ضعيف بنفسه) عاجز عن شاوي الكمال (فيطمع في ذلك) أي: اللحوق بهذا المقام فإنه صعب المرام تحيرت فيه الأفكار والأوهام (ولا يبعد أن تنتهي درجة بعض الأولياء) الكمل (إليه) وإليه الإشارة بقولهم: الصوفي بائن كائن بالله وبائن عن الخلق ويسمى هذا مقام جمع الجمع .

(فقد نقل عن) سيد الطائفة أبي القاسم (الجنيد) قدس الله سره (أنه قال: أنا أكلم الله) أي: أخاطبه (منذ ثلاثين سنة والناس يظنون أني أكلمهم) والدليل على أن المراد من قوله هذا الرمز إلى المقام المذكور. قوله (وهذا إنما يتيسر للمستغرق بحب الله تعالى استغراقا لا يبقى لغيره فيه متسع) وهو المرتبة الأحدية وهو أتم وأعلى من مقام الجمع (وذلك غير منكر ففي المستهزئين) وفي نسخة: المشتهرين (بحب الخلق) أي: بالعشق للصور الجميلة (من يخالط الناس ببدنه وهو لا يدري ما يقول) هو (و) لا (ما يقال له لفرط عشقه) وهيمانه (لمحبوبه) الذي سلب قراره لأجله (بل الذي دهاه ملمة) أي: نازلة (تشوش عليه أمرا من أمور دنياه فقد يستغرقه الهم بحيث يخالط الناس ولا يحس بهم ولا يسمع أصواتهم)كل ذلك (لشدة استغراقه) في حب محبوبه، هذا أمر الدنيا (وأمر الآخرة أعظم عند العقلاء) الكمل (فلا يستحيل ذلك فيه) وهذا هو الخلوة في الجلوة (ولكن الأولى بالأكثرين) من أهل السلوك (الاستعانة بالعزلة) فإنها نعم الوسيلة لإيصال السالك إلى المقام المذكور وإن كان المدار على الهمة وسبق العناية الأزلية؛ (ولذلك قيل لبعض الحكماء) من الإسلاميين: (ما الذي أرادوا بالخلوة واختيار العزلة؟ قال: ليستدعوا) أي: ليستجلبوا (بذلك دوام الفكرة وتثبيت العلوم) الإلهية التي وهبوها فضلا (في قلوبهم ليحيوا حياة طيبة) في الدارين (ويذوقوا حلاوة المعرفة) بالله، ومن هنا قول بعضهم: خرج أكثر العارفين بالله من الدنيا وهم في حسرة إذا لم يذوقوا لذة المعرفة (وقيل لبعض الرهبان) من الإسلاميين إذ رآه منتبذا من الناس (ما أصبرك على الوحدة! فقال: ما أنا وحدي، أنا جليس الله تعالى إذا شئت أن يناجيني قرأت كتابه) فإنه كلامه منه إليه (وإذا شئت أن أناجيه صليت) وقد ورد أن المصلي يناجي ربه .

(وقيل: لبعض الحكماء أي: شيء أفضى بهم الزهد) عن الدنيا (والخلوة) عن [ ص: 343 ] الناس أو الاعتزال عنهم (فقال: إلى الأنس بالله عز وجل) أشار بذلك إلى ثمرتهما (وقال سفيان بن عيينة) أبو محمد الهلالي مولاهم المكي هكذا في سائر النسخ وهو غلط نشأ من تصحيف، والصواب: وقال شقيق؛ لأن سفيان مات سنة 198 وابن أدهم متأخر (لقيت إبراهيم بن أدهم) البلخي قدس سره في بلاد الشام (فقلت له: يا إبراهيم تركت خراسان) اسم إقليم ببلاد فارس (فقال: ما تهنأت بالعيش أفر بديني من شاهق إلى شاهق) وهو المرتفع من الجبال (فمن رآني يقول) هذا (موسوس أو جمال أو فلاح) أخرجه صاحب الحلية عن شقيق على الصواب فقال: حدثنا عبد الله بن محمد ومحمد بن إبراهيم قالا: حدثنا أبو يعلى، حدثنا عبد الصمد بن يزيد قال: سمعت شقيقا البلخي يقول: لقيت إبراهيم بن أدهم في بلاد الشام فقلت: يا إبراهيم تركت خراسان، فساقه. وفيه بعد قوله: إلى شاهق. ومن جبل إلى جبل فمن يراني يقول: هو موسوس ومن يراني يقول: هو جمال .

(وقيل لغزوان الرقاشي) هو غزوان بن يوسف روي عن الحسن وعنه نصر بن علي الجهضمي قال البخاري: تركوه، كذا في الديوان للذهبي (هبك لا تضحك فما يمنعك من مجالسة إخوانك؟ قال: إني أصبت) أي: وجدت (راحة قلبي في مجالسة من عنده حاجتي، وقيل للحسن) البصري (ههنا) أي: في مسجد البصرة (رجل لم نره جالسا قط إلا وحده خلف سارية) من سواري المسجد (فقال الحسن: إذا رأيتموه فأخبروني به فنظروا إليه ذات يوم فقالوا للحسن: هذا الرجل الذي أخبرناك به وأشاروا إليه فمضى إليه) الحسن (وقال: يا عبد الله أراك قد حببت إليك العزلة) والانفراد (فما) الذي (يمنعك من مجالسة الناس؟ فقال: أمر شغلني عن الناس، قال: فما يمنعك أن تأتي هذا الرجل الذي يقال له الحسن) يعني نفسه (فتجلس إليه) فتستفيد منه (فقال: أمر شغلني عن الناس وعن الحسن فقال له) الحسن (وما ذاك الشغل يرحمك الله؟ قال: إني أصبح وأمسي بين نعمة وذنب فرأيت أن أشغل نفسي بشكر الله على النعمة والاستغفار من الذنب، قال له الحسن: أنت يا عبد الله أفقه عندي من الحسن فالزم ما أنت عليه) أي: لما رآه الحسن مشغولا بما هو أهم لم يأمره بالخلطة وتركه على ما هو فيه .

(وقيل: بينما أويس) بن عامر القرني محركة، روى له مسلم قصة مختصرة في آخر صحيحه وهو سيد التابعين، قتل بصفين وله ترجمة واسعة (جالس إذ أتاه هرم) ككتف (ابن حيان) أحد الأولياء المشهورين ترجمته في الحلية (فقال له أويس: ما جاء بك؟ قال: جئت لآنس بك، فقال أويس: ما كنت أرى أن أحدا يعرف ربه فيأنس بغيره) قال أحمد في الزهد: حدثنا محمد بن مصعب سمعت مخلدا هو ابن حسين ذكر عن هشام يعني ابن حسان عن الحسين أن هرما مات في غزاة في يوم صائف، فلما فرغ من دفنه جاءته سحابة حتى كانت حيال القبر فرشت القبر حتى روي لا تجاوز قطرة ثم عادت عودها على بدئها.

(وقال الفضيل) قدس سره (إذا رأيت الليل مقبلا فرحت به وقلت: أخلو بربي) أي: لقلة مخالطة الناس عامة (وإذا رأيت الصبح) قد انفجر و (أدركني استرجعت) أي: قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون وهي كلمة تقال عند حلول المصيبة (كراهية لقاء الناس وأن يجيئني من يشغلني عن ربي) أخرجه أبو نعيم في الحلية وفي ترجمة سفيان الثوري من طريق يزيد بن توبة قال: قال لي سفيان: إني لأفرح إذا جاء الليل ليس إلا لأستريح من رؤية الناس (وقال عبد الله بن زيد) كذا في النسخ والصواب عبد الواحد بن زيد وهو البصري المذكر قال البخاري والنسائي متروك كذا في الديوان للذهبي، وقد روي عن الحسن البصري وأسلم الكوفي وغيرهما (طوبى لمن عاش في الدنيا وعاش في الآخرة، قيل له: وكيف ذلك؟ قال: يناجي الله في الدنيا) أي: في حال صلواته فإن المصلي يناجي ربه كما في الخبر (ويجاوره في الآخرة) في الفردوس الأعلى وهذه المجاورة هي ثمرة المناجاة (وقال ذو النون المصري) قدس سره (سرور المؤمن [ ص: 344 ] ولذته في الخلوة بمناجاة ربه) وهو يحتمل أن يكون بمناجاة ربه إياه وذلك بتلاوة كلامه وأن يكون بمناجاة ربه وذلك بالصلاة والمراقبة .

(وقال مالك بن دينار) أبو يحيى البصري (من لو يأنس بمحادثة الله -عز وجل- عن محادثة المخلوقين فقد قل عمله وعمي قلبه وضيع عمره) وعمي قلبه كنابة عن غلبة الران عليه (وقال) عبد الله (بن المبارك) -رحمه الله تعالى- (ما أحسن حال من انقطع إلى الله -عز وجل-) أي: اعتزل عن الخلطة وحبب إليه الانقطاع إلى الله بالخلوة وتفريغ الفكر لعبادته (وروي عن بعض الصالحين أنه قال: بينا أنا أسير في بعض بلاد الشام إذا أنا بعابد) من العباد (خارج من بعض) مغارات (تلك الجبال فلما نظر إلي تنحى) أي: صار في ناحية والتجأ (إلى أصل شجرة وتستر بها) أي: بالشجرة وفي بعض النسخ به أي: بأصل الشجرة (فقلت: سبحان الله! تبخل علي بالنظر إليك؟ فقال: يا هذا) عذري (أني أقمت في هذا الجبل دهرا طويلا أعالج قلبي في الصبر عن الدنيا وأهلها) أي: بعدم الميل إليها والمخالطة بأهلها (فطال ذلك تعبي وفني فيه عمري) ولم أحصل ذلك (فسألت الله -عز وجل- أن لا يجعل حظي من أيامي) الباقية (في مجاهدة قلبي فسكنه الله -عز وجل- عن الاضطراب) والقلق (وآنس الوحدة والانفراد فكلما نظرت إليك خفت أن أوقع في الأمر الأول) وهو الخلطة (فإليك عني) أي: تنح عني بعيدا (فإني أعوذ من شرك برب العالمين وحبيب القانتين ثم صاح) وقال (واغماه من طول المكث في الدنيا ثم حول وجهه عني ثم نفض يديه وقال: إليك عني يا دنيا لغيري فتزيني ولأهلك الذين أحبوك فغري) أي: أوقعيهم في الغرور (ثم قال: سبحان من أذاق قلوب العارفين من لذة الخدمة) إشارة إلى العبادة (وحلاوة الانقطاع) عن الخلق (ما ألهى قلوبهم) أي: شغلها (من ذكر الجنات وعن الحور الحسان) إلى هنا في غالب النسخ وفي بعضها بزيادة: (وجمع هممهم في ذكره فلا شيء ألذ عندهم من مناجاته ثم) تركني و (مضى وهو يقول: قدوس قدوس) وهذا رجل قد استهلك في حب الله وتنزه عما سواه ونزه الله عما لا يليق بجلاله وكبريائه، ألوف بالوحدة نفور عن الكثرة .




الخدمات العلمية