الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومنها أن يصلح ذات البين بين المسلمين مهما وجد إليه سبيلا .

قال صلى الله عليه وسلم : ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة قالوا : بلى قال : إصلاح ذات البين وفساد ذات البين هي الحالقة .

وقال صلى الله عليه وسلم : أفضل الصدقة إصلاح ذات البين .

وعن النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أنس رضي الله عنه قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس إذ ضحك حتى بدت ثناياه فقال عمر رضي الله عنه يا رسول الله بأبي أنت وأمي ما الذي أضحك ؟ قال : رجلان من أمتي جثيا بين يدي رب العزة فقال أحدهما يا رب خذ لي مظلمتي من هذا ، فقال الله تعالى : رد على أخيك مظلمته .

فقال : يا رب لم يبق لي من حسناتي شيء ، فقال الله تعالى للطالب : كيف تصنع بأخيك ولم ؟ يبق له من حسناته شيء ، فقال : يا رب فليحمل عني من أوزاري .

ثم فاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبكاء فقال : إن ذلك ليوم عظيم يوم يحتاج الناس فيه إلى أن يحمل عنهم من أوزارهم قال فيقول الله تعالى أي للمتظلم ارفع بصرك فانظر في الجنان فقال : يا رب أرى مدائن من فضة وقصورا من ذهب مكللة باللؤلؤ ، لأي نبي هذا ؟ أو لأي صديق ؟ أو لأي شهيد قال ؟ الله تعالى : هذا لمن أعطى الثمن قال : يا رب ومن يملك ذلك ؟ قال : أنت تملكه ، قال : بماذا يا رب ؟ قال : بعفوك عن أخيك ، قال : يا رب قد عفوت عنه ، فيقول الله تعالى : خذ بيد أخيك فأدخله الجنة .

ثم قال صلى الله عليه وسلم : اتقوا وأصلحوا ذات بينكم ؛ فإن الله تعالى يصلح بين المؤمنين يوم القيامة
.

وقد قال صلى الله عليه وسلم : ليس بكذاب من أصلح بين اثنين فقال خيرا .

وهذا يدل على وجوب الإصلاح بين الناس ؛ لأن ترك الكذب واجب ، ولا يسقط الواجب إلا بواجب آكد منه قال صلى الله عليه وسلم : كل الكذب مكتوب إلا أن يكذب الرجل في الحرب .

فإن الحرب خدعة أو يكذب بين اثنين فيصلح بينهما أو يكذب لامرأته ليرضيها .

التالي السابق


(ومنها أن يصلح ذات البين بين المسلمين) يعني: الفساد بين القوم والفتنة الثائرة بينهم فيصلحها ويزيل أسبابها ولو بتحمل حمالة على نفسه (مهما وجد إليه سبيلا) سهلا (قال -صلى الله عليه وسلم-: ألا أخبركم بأفضل) أي: بدرجة هي أفضل (من درجة الصيام والصلاة والصدقة) أي: المستمرات أو الكثيرات (قالوا: بلى) أخبرنا به (قال: إصلاح ذات البين) أي: إصلاح أحوال البين حتى تعود إلى صحبة وألفة أو هو إصلاح الفساد والفتنة التي بين المسلمين (وفساد ذات البين هي الحالقة) أي: الخصلة التي شأنها أن تحلق أي: تهلك وتستأصل الدين كما يستأصل المزينون الشعر، أو المراد المزيلة لمن وقع فيها لما يترتب عليه من الفساد والضغائن .

قال العراقي: رواه أبو داود والترمذي وصححه من حديث أبي الدرداء قلت: ورواه كذلك أحمد والبخاري في الأدب المفرد وقال الحافظ ابن حجر: سنده صحيح .

(وقال -صلى الله عليه وسلم-: أفضل الصدقة إصلاح ذات البين) .

قال العراقي: رواه الطبراني في الكبير والخرائطي في مكارم الأخلاق من حديث عبد الله بن عمر وفيه عبد الرحمن بن زياد الأفريقي. ضعفه الجمهور، قلت: ووقع في نسخ الجامع للجلال عبد الله بن عمرو وفيه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم وإن كان ضعيفا ولكن حديثه أحسن لحديث أبي الدرداء السابق. قاله المنذري.

(و) روي (عن أنس) -رضي الله عنه- (قال: بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس إذ ضحك حتى بدت ثناياه فقال عمر) بن الخطاب -رضي الله عنه- (بأبي أنت وأمي ما أضحك يا رسول الله؟ قال: رجلان من أمتي جثيا) على ركبهما (بين يدي رب العزة) جل شأنه (فقال أحدهما يا رب خذ مظلمتي من هذا، فقال الله -عز وجل-: رد على أخيك مظلمته، فقال: يا رب لم يبق لي من حسناتي شيء، فقال الله تعالى للطالب: كيف تصنع بأخيك؟ لم يبق من حسناته شيء، فقال: يا رب فليحمل عني من أوزاري) شيئا (ثم فاضت عينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من البكاء) لما تذكر ذلك الموقف العظيم (فقال: إن ذلك ليوم عظيم يوم يحتاج الناس) فيه (إلى أن يحمل عنهم من أوزارهم فيقول الله -عز وجل- للمظلوم) وفي نسخة للمتظلم (ارفع بصرك فانظر للجنان) فيرفع بصره (فقال: يا رب أرى مدائن من فضة وقصورا من ذهب مكللة باللؤلؤ، لأي نبي هذا؟) من بين الأنبياء (أو لأي صديق هذا؟ أو لأي شهيد هذا؟ فيقول الله -عز وجل-: هذا لمن أعطى الثمن، فيقول: يا رب ومن يملك ذلك؟ قال: أنت تملكه، قال: بماذا يا رب؟ قال: بعفوك عن أخيك، قال: يا رب فقد عفوت عنه، فيقول الله -عز وجل-: خذ بيد أخيك فأدخله الجنة، ثم قال -صلى الله عليه وسلم-: اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم؛ فإن الله تعالى يصلح بين المؤمنين يوم القيامة) .

قال العراقي: رواه الخرائطي في مكارم الأخلاق والحاكم، وقال: صحيح الإسناد، وضعفه البخاري وابن حبان.

(وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: ليس بكذاب من أصلح بين اثنين) متشاجرين أو متباغضين، وفي رواية: "ليس الكذاب بالذي" وفي أخرى: "الذي يصلح بين الناس" (فقال خيرا أو نما) أي: رفع (خيرا) أي: على وجهه الإصلاح، وفي رواية: "فينمي خيرا أو يقول خيرا" والمراد: لا يأثم في كذبه من قبيل ذكر الملزوم وإرادة اللازم، والمراد بقوله قال خيرا أي: أخبر بخير ما عمله ويسكت عما عمله من الشر، فإن ذلك جائز بل محمود بل قد يندب بل قد يجب، وإليه أشار المصنف بقوله (وهذا يدل على وجوب الإصلاح؛ لأن ترك الكذب واجب، ولا يسقط الواجب إلا بواجب آكد منه) لكن في اشتراط قصد التورية خلف، وليس المراد نفي ذات الكذب بل نفي إثمه؛ فالكذب كذب لإصلاح أو غيره .

قال العراقي: متفق عليه من حديث أم كلثوم بنت عقبة ابن أبي معيط.

قلت: وكذلك رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن جرير كلهم من حديث حميد بن عبد الرحمن عن أمه أم كلثوم بنت عقبة. ورواه الطبراني في الكبير من حديث شداد ابن أوس (وقال صلى الله عليه وسلم: كل الكذب مكتوب) على ابن آدم وفي رواية: يكتب (إلا) ثلاثا (أن يكذب الرجل في الحرب) [ ص: 268 ] فلا يكتب عليه ذلك (فإن الحرب خدعة) بل قد يجب إذا دعت إليه ضرورة أهل الإسلام (أو يكذب بين اثنين) بينهما نحو إحن وفتن (ليصلح بينهما) بقوله ذلك (أو يكذب لامرأته ليرضيها) فالكذب في هذه الحالات غير محرم بل قد يجب، ومحصوله أن الكذب تجري فيه الأحكام الخمسة وسيأتي ضابطه في كلام المصنف في ربع المهلكات، قال العراقي: رواه الخرائطي في مكارم الأخلاق من حديث النواس بن سمعان، وفيه انقطاع وضعف، ولمسلم نحوه من حديث أم كلثوم بنت عقبة، قلت: وكذلك رواه الطبراني في الكبير وابن السني في عمل يوم وليلة، ومن سندهم محمد بن جامع العطار وهو ضعيف، ورواه ابن عدي في الكامل من حديث أسماء بنت يزيد بزيادة في أوله .




الخدمات العلمية