الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والناس منقسمون إلى مكذبين له من اليهود وعبدة الأوثان وإلى مصدقين له قد شاع الفسق فيهم كما شاع في زماننا الآن والكفار مخاطبون بفروع الشريعة .

التالي السابق


(والناس منقسمون إلى مكذبين له من) طائفة (اليهود) الخاسرين (وعبدة الأوثان) من المجوس أتباع زرادشت وغيرهم (وإلى مصدقين له) من بني إسرائيل وغيرهم، (وقد شاع الفسق فيهم كما شاع في زماننا الآن) ، سواء بسواء، (والكفار) بأجمعهم ( مخاطبون بفروع الشريعة) ، وهذه المسألة مختلف فيها بين الأئمة، قال: المجد الأيكي في شرح المنهاج الأصولي: اعلم أن حصول شرائط صحة الفعل ليس مشترطا في التكليف به خلافا لأصحاب أبي حنيفة والمعتزلة ، وهذه المسألة مفروضة في أن الكفار مكلفون بفروع الإيمان مثل: الصوم والصلاة حالة الكفر أم لا؟ عند الشافعي وغيره من أصحابه أن الكافر مكلف بالفروع، وعن أبي حنيفة أنه غير مكلف به، وعند قوم مكلف في المنهيات غير مكلف في المأمورات، والمراد من تكليف الكافر بالفروع ليس طلب الفعل منه حال كفره، بل المراد تضاعف العذاب بسبب ترك الفروع على العذاب بترك الإيمان، والدليل على أن الكافر مكلف بالفروع أن الآيات الآمرة مثل: وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وغيرها متناولة للكفار أيضا بدليل صحة الاستثناء، والكفر غير مانع لإمكان إزالته كما في الحديث، والغاية أن الكافر مكلف بالإيمان أولا وبالصلاة ثانيا، وأيضا الآيات الموعدة بالعذاب بترك الفروع كثيرة، كلها تدل على أن الكافر مكلف بالفروع مثل: وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة ، ومثل قوله: ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ، وأيضا الكافر مكلف بالنواهي اتفاقا، فيجب أن يكون مكلفا بالأوامر قياسا عليه بجامع كونهما حكمين شرعيين اهـ .

وقال فخر الإسلام من أصحابنا في آخر أصوله في بيان الأهلية: الكافر أهل لأحكام لا يراد بها وجه الله; لأنه أهل لأدائها، فكان أهلا للوجوب له وعليه، ولما لم يكن أهلا لثواب الآخرة لم يكن أهلا لوجوب شيء من الشرائع التي هي طاعات الله تعالى، وكان الخطاب موضوعا عنه عندنا، والإيمان بالله لما كان أهلا لأدائه ووجوب حكمه، ولم يجعل مخاطبا بالشرائع لشرط تقديم الإيمان; لأنه رأس أسباب أهلية أحكام نعيم الآخرة، فلم يصلح أن يجعل شرطا مقتضيا اهـ. أي: للزوم قلب الموضوع والشرع حينئذ، وذكر السعد في التلويح على التوضيح ما نصه معناه: أنهم يؤاخذون بترك الاعتقاد; لأن موجب الأمر اعتقاد اللزوم والأداء، وأما في حق وجوب الأداء في الدنيا، فمذهب العراقيين أن الخطاب يتناولهم، وأن الأداء واجب عليهم، وهو مذهب الشافعي ، وعند عامة مشايخ ديار ما وراء النهر لا يخاطبون بأداء ما يحتمل السقوط، وإليه ذهب القاضي أبو زيد ، والإمام شمس الأئمة وفخر الإسلام ، وهو مختار المتأخرين، ولا خلاف في عدم جواز الأداء حال الكفر، ولا في عدم وجوب القضاء بعد الإسلام، وإنما تظهر فائدة الخلاف في أنهم هل يعاقبون في الآخرة بترك العبادات زيادة على عقوبة الكفر، كما يعاقبون بترك الاعتقاد. كذا ذكره في الميزان وهو الموافق لما ذكر في أصول الشافعية من أن تكليفهم بالفروع إنما هو لتعذيبهم بتركها، كما يعذبون بترك الأصول، فظهر أن محل الخلاف هو الوجوب في حق المؤاخذة على ترك الأعمال بعد الاتفاق على المؤاخذة بترك اعتقاد الوجوب، ولما أورد صاحب التوضيح قوله تعالى: ما سلككم في سقر ، الآية دليلا على أنهم مخاطبون بالعبادات في حق المؤاخذة في الآخرة على ما هو المتفق .

قال السعد : وقد نهيناك على أن محل الوفاق ليس هو المؤاخذة في الآخرة على ترك الأعمال، بل على ترك اعتقاد الوجوب، فالآية متمسك للقائلين بالوجوب في [ ص: 52 ] حق المؤاخذة على ترك الأعمال أيضا، ولهذا أجاب عنه الفريق الثاني بأن المراد لم يكن من المعتقدين فرضية الصلاة، فيكون العذاب على ترك الاعتقاد ورد بأنه مجاز، فلا يثبت إلا بدليل، فإن قيل لا حجة في الآية لجواز أن يكونوا كاذبين في إضافة العذاب إلى ترك الصلاة والزكاة، ولا يجب على الله تكذيبهم كما في قوله تعالى: والله ربنا ما كنا مشركين ما كنا نعمل من سوء ، ونحو ذلك أو يكون الإخبار عن المرتدين الذين تركوا الصلاة حال ردتهم، قلنا: الإجماع على أن المراد تصديقهم فيما قالوا وتحذير غيرهم، ولو كان كذبا لما كان في الآية فائدة، وترك التكذيب إنما يحسن إذا كان العقل مستقلا بكذبه كما في الآيات المذكورة، وههنا ليس كذلك، والمجرمون عام لا تخصيص له بالمرتدين اهـ .




الخدمات العلمية