الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الثاني : أن يختار رفيقا فلا يخرج وحده فالرفيق ثم الطريق .

وليكن رفيقه ممن يعينه على الدين فيذكره إذا نسي ويعينه ويساعده إذا ذكر فإن المرء على دين خليله ولا يعرف الرجل إلا برفيقه .

وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن أن يسافر الرجل وحده .

وقال : الثلاثة نفر .

وقال أيضا إذا كنتم ثلاثة في السفر فأمروا أحدكم .

وكانوا يفعلون ذلك ويقولون هذا أميرنا : أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وليؤمروا أحسنهم أخلاقا وأرفقهم بالأصحاب وأسرعهم إلى الإيثار وطلب الموافقة .

وإنما يحتاج إلى الأمير لأن الآراء تختلف في تعيين المنازل والطرق ومصالح السفر ولا نظام إلا في الوحدة ولا فساد إلا في الكثرة .

وإنما انتظم أمر العالم ; لأن مدبر الكل واحد لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ومهما كان المدبر واحدا انتظم أمر التدبير .

وإذا كثر المدبرون فسدت الأمور في الحضر والسفر إلا أن مواطن الإقامة لا تخلو عن أمير عام كأمير البلد .

وأمير خاص كرب الدار .

وأما السفر فلا يتعين له أمير إلا بالتأمير .

فلهذا وجب التأمير ليجتمع شتات الآراء .

ثم على الأمير أن لا ينظر إلا لمصلحة القوم وأن يجعل نفسه وقاية لهم كما نقل عن عبد الله المروزي أنه صحبه أبو على الرباطي فقال على أن تكون أنت الأمير أو أنا فقال بل أنت فلم يزل يحمل الزاد لنفسه ولأبي علي على ظهره فأمطرت السماء ذات ليلة فقام عبد الله طول الليل على رأس رفيقه وفي يده كساء يمنع عنه المطر فكلما قال له عبد الله : لا تفعل يقول : ألم تقل إن الإمارة مسلمة لي فلا تتحكم علي ولا ترجع عن قولك ، حتى قال أبو علي : وددت أني مت ولم أقل له أنت الأمير فهكذا ينبغي أن يكون الأمير .

وقد قال صلى الله عليه وسلم : خير الأصحاب أربعة .

وتخصيص الأربعة من بين سائر الأعداد لا بد أن يكون له فائدة والذي ينقدح فيه أن المسافر لا يخلو عن رجل يحتاج إلى حفظه وعن حاجة يحتاج إلى التردد فيها ولو كانوا ثلاثة لكان المتردد في الحاجة واحدا فيبقى في السفر بلا رفيق فلا يخلو عن خطر وعن ضيق قلب لفقد أنس الرفيق ولو تردد في الحاجة اثنان لكان الحافظ للرحل واحدا فلا يخلو أيضا عن الخطر وعن ضيق الصدر .

فإذن ما دون الأربعة لا يفي بالمقصود وما فوق الأربعة يزيد فلا تجمعهم رابطة واحدة فلا ينعقد بينهم الترافق ; لأن الخامس زيادة بعد الحاجة ومن يستغني عنه لا تنصرف الهمة إليه فلا تتم المرافقة معه .

، نعم في كثرة الرفقاء فائدة للأمن من المخاوف .

ولكن الأربعة خير للرفاقة الخاصة لا للرفاقة العامة .

وكم من رفيق في الطريق عند كثرة الرفاق لا يكلم ولا يخالط إلى آخر الطريق للاستغناء عنه .

التالي السابق


(الثاني: أن يختار رفيقا) في سفره (فلا يخرج) مسافرا (وحده فالرفيق ثم الطريق) وقد روي ذلك من حديث رافع بن خديج مرفوعا: التمسوا الرفيق قبل الطريق، والجار قبل الدار. رواه الطبراني في الكبير وابن أبي خيثمة وأبو الفتح الأزدي والعسكري في الأمثال، والخطيب في الجامع من طريق أبان بن المحبر عن سعيد بن معروف بن رافع بن خديج عن أبيه عن جده، وابن المحبر وسعيد لا تقوم بهما حجة، ولكن له شاهد رواه العسكري فقط من حديث عبد الملك بن سعيد الخزاعي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه عن علي -رضي الله عنه- قال: خطب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وذكر حديثا طويلا ثم قال في آخره: الجار ثم الدار الرفيق ثم الطريق. وهو عند الخطيب في جامعه باختصار من حديث محمد بن مسلم عن أبي جعفر محمد بن علي عن أبيه علي بن الحسين عن أبيه الحسين بن علي عن أبيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: الجار قبل الدار، والرفيق قبل الطريق، والزاد قبل الرحيل. وعند الخطيب في الجامع من طريق عبد الله بن محمد اليماني عن أبيه عن جده قال: قال خفاف بن ندبة: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يا خفاف ابتغ الرفيق قبل الطريق. وكلها ضعيفة، ولكن بانضمامها تقوى، (وليكن رفيقه ممن يعينه على الدين فيذكره إذا نسي ويعينه ويساعده إذا ذكر) وهو معنى الخبر الوارد: إذا أراد الله بعبد خيرا جعل له رفيقا صالحا إن نسي ذكره وإن ذكر أعانه، وقد تقدم في كتاب الصحبة .

وروى ابن أبي الدنيا في كتاب الإخوان عن الحسن مرسلا: خير الأصحاب صاحب إذا ذكرت الله أعانك وإذا نسيت ذكرك، (فإن المرء على دين خليله) ، وروى ذلك مرفوعا، وقد تقدم ذلك في كتاب الصحبة (ولا يعرف الرجل إلا برفيقه) فلينظر من يخالل، ومنه أخذ المتنبي قوله:

وكل قرين بالمقارن يقتدي



(وقد نهى -صلى الله عليه وسلم- أن يسافر الرجل وحده) .

قال العراقي: رواه أحمد من حديث ابن عمر بإسناد صحيح وهو عند البخاري بلفظ: لو يعلم الناس في الوحدة ما أعلم ما سار راكب بليل. اهـ .

قلت: وروى أحمد من حديث ابن عمر أيضا: نهى عن الوحدة أن يبيت الرجل وحده.

وأما حديث البخاري فهو عن ابن عمر أيضا وقد أخرجه كذلك أحمد والترمذي وابن ماجه، (وقال: الثلاثة نفر) ولفظ القوت: وقد نهى -صلى الله عليه وسلم- أن يسافر الرجل وحده وقال: الثلاثة نفر. فهذا يدل أن الحديث المرفوع هو هذا القول: الثلاثة نفر، فتأمل .

قال العراقي: رويناه من حديث علي في وصيته المشهورة وهو حديث موضوع والمعروف: الثلاثة ركب، رواه أبو داود والترمذي وحسنه النسائي من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (وقال) أيضا: (إذا كنتم ثلاثة في سفر فأمروا أحدكم) هكذا هو في القوت، وقال العراقي: رواه الطبراني من حديث ابن مسعود بإسناد حسن، (وكانوا يفعلون ذلك ويقولون: هو أمير أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم) هكذا هو في القوت وقال العراقي: رواه البزار والحاكم عن عمر -رضي الله عنه- قال: إذا كنتم ثلاثة في سفر فأمروا عليكم أحدكم، ذاك أمير أمره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين .

(وليؤمروا عليهم أحسنهم أخلاقا وأرفقهم بالأصحاب وأسرعهم إلى الإيثار) والبذل (وطلب الموافقة) فإذا أمر فليطيعوه ولا يخالفوه (وإنما يحتاج إلى الأمير) في السفر (لأن الآراء تختلف في تعيين المنازل [ ص: 399 ] والطرق) بحسب القرب والبعد والأمن والخوف (ومصالح السفر ولا نظام إلا من الوحدة ولا فساد إلا من الكثرة) ولفظ القوت: والسياحة لا تحسن إلا على الانفراد والوحدة، فإن اتفق ثلاثة في سياحة بقلب واحد وهم واحد على حال واحد فهم كعبد واحد فهو حسن وفيه معاونة على البر والتقوى. (وإنما انتظم أمر العالم; لأن مدبر الكل واحد) لا يشاركه أحد (و) إليه الإشارة بقوله جل وعز ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) وتوضيح هذا المقام قد مر في كتاب قواعد العقائد، (ومهما كان المدبر واحدا انتظم التدبير) وارتفع التعسير .

(وإذا كثرت المدبرون فسدت الأمور في الحضر والسفر) وإنما يخشى من التلف في البحر إذا كان في السفينة مدبران (إلا أن مواطن الإقامة لا تخلو عن أمير عام) يدبر أمر العامة بالسياسة الشرعية كأمير البلد، (أو أمير خاص كرب الدار وأما السفر فلا يتعين له أمير إلا بالتأمير) من عند أنفسهم (فلهذا وجب التأمير ليجمع شتات الآراء) في أمر المنازل والطرق ويتكلم على مصالح السفر، (ثم على الأمير) إن أمره القوم (أن لا ينظر إلا لمصلحة القوم) أي: ما يصلح به حالهم، (وأن يجعل نفسه وقاية لهم) إن عرضت مشقة (كما نقل عن عبد الله المروزي أنه صحبه أبو علي الرباطي) وكان المروذي من عادته أن يدخل البادية بلا زاد ولا راحلة (فقال) الرباطي لما صحبه (على أن تكون أنت الأمير أو أنا) ولفظ الرسالة: أيما أحب إليك أن تكون أنت الأمير أو أنا، (فقال) لا (بل أنت) فقال: وعليك الطاعة لي؟ قال: نعم، (فلم يزل يحمل الزاد لنفسه ولأبي علي على ظهره) ولفظ الرسالة: فأخذ مخلاة ووضع فيها زادا فحمله على ظهره فإذا قلت: أعطني أحمله قال: الأمير أنا وعليك الطاعة، (فأمطرت السماء ذات ليلة فقام عبد الله طول الليل على رأس رفيقه وفي يده كساء) أرخاه عليه من سائر جهاته (يمنع عنه المطر فكلما قال له عبد الله: لا تفعل يقول: ألم تقل إن الإمارة مسلمة لي) وعليك الطاعة لي (فلا تتحكم علي ولا ترجع عن قولك، حتى قال أبو علي: وددت لو أني مت ولم أقل له أنت الأمير) ولفظ الرسالة: فكنت أقول في نفسي ليتني مت ولم أقل له أنت الأمير. ثم قال لي: إذا صحبت إنسانا فاصحبه كما رأيتني صحبتك هكذا، أورده القشيري في كتاب الصحبة من الرسالة وتبعه المصنف هنا، وسبق للمصنف أيضا هذه القصة في كتاب آداب الصحبة مع اختلاف يسير بين السياقين .

(فهكذا ينبغي أن يكون الأمير) على الجماعة يقي بنفسه عنهم في المخاوف ويجب عليهم امتثال أمره لقوله تعالى: وأولي الأمر منكم (وقال -صلى الله عليه وسلم-: خير الأصحاب أربعة) .

قال العراقي: رواه أبو داود والترمذي والحاكم من حديث ابن عباس، قال الترمذي: حسن غريب، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. اهـ .

قلت: وإنما لم يصححه الترمذي لأنه يروى مسندا ومرسلا ومعضلا قال ابن القطان: لكن هو ليس بعلة فالأقرب صحته انتهى، ورواه كذلك أحمد والبيهقي وابن عساكر، ولفظ الجميع: خير الصحابة أربعة، وخير السرايا أربعمائة، وخير الجيوش أربعة آلاف، ولا يهزم اثنا عشر ألفا من قلة. زاد ابن عساكر: إذا صبروا وصدموا .

(وتخصيص الأربعة من بين سائر الأعداد لا بد من أن يكون له فائدة والذي ينقدح) الفكر (فيه أن المسافر لا يخلو عن رحل يحتاج إلى حفظه) ومنعه وصيانته، (وعن حاجة يحتاج إلى التردد فيها) بالذهاب والمجيء فيها، (ولو كانوا ثلاثة لكان المتردد في الحاجة واحدا فيتردد في السفر بلا رفيق فلا يخلو عن خطر وضيق قلب لفقد أنيس الرفيق ولو تردد في الحاجة اثنان كان الحافظ للرحل واحدا فلا يخلو أيضا عن الخطر وضيق الصدر) ، وهذا الذي ذكره المصنف حسن، ويقرب منه أن يقال: وجه تخصيص هذا العدد; لأن أحدهم لو مرض أمكنه جعل واحد وصيا والآخرين شهيدين، والثلاثة لا يبقى منهم غير واحد، ولأن الأربعة أبعد أوائل الأعداد من الآفة وأقربها إلى التمام، ألا ترى أن الشيء الذي تحمله الدعائم أربعة وذا القوائم الأربع إذا زال أحدها قام على ثلاث ولم يكد يثبت، وما له ثلاث قوائم إذا زال أحدها سقط، وإنما كانت الأربعة أبعد من الآفة لأنهم لو كانوا ثلاثة ربما تناجى اثنان دون واحد وهو منهي عنه والأربعة إذا [ ص: 400 ] انتجى اثنان يبقى اثنان، والله أعلم .

(فإذا ما دون الأربعة لا يفي بالمقصود وما فوق الأربعة يزيد فلا تجمعهم رابطة واحدة فلا ينعقد بينهم التوافق; لأن الخامس زيادة بعد الحاجة ومن يستغنى عنه لا تصرف الهمة إليه فلا تتم الموافقة معهم، نعم في كثرة الرفقاء فائدة للأمن من المخاوف) إذا كان الطريق بعيدا، ويخاف فيه من العدو ففي الكثرة صيانة وأمن لأنه يرجى به دفع الصائل وهيبة على العدو ولو كان فيهم كثرة (ولكن الأربعة خير للرفاقة الخاصة لا العامة وكم من رفيق في الطريق عند كثرة الرفاق لا يكلم ولا يخالط إلى آخر الطريق للاستغناء عنه) وعدم الاحتياج إليه .




الخدمات العلمية