الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الدرجة الثانية : النظر في الصوت الطيب الموزون فإن الوزن وراء الحسن فكم من صوت حسن خارج عن الوزن ، وكم من صوت موزون غير مستطاب .

والأصوات الموزونة باعتبار مخارجها ثلاثة فإنها إما أن تخرج من جماد كصوت المزامير والأوتار وضرب ، القضيب والطبل وغيره ، وإما أن تخرج من حنجرة حيوان وذلك الحيوان إما إنسان أو غيره كصوت العنادل والقماري وذات السجع من الطيور فهي مع طيبها موزونة متناسبة المطالع والمقاطع ، فلذلك يستلذ سماعها .

والأصل في الأصوات حناجر الحيوانات ، وإنما وضعت المزامير على أصوات الحناجر وهو ، تشبيه للصنعة بالخلقة .

وما من شيء توصل أهل الصناعات بصناعتهم إلى تصويره إلا وله مثال في الخلقة التي استأثر الله تعالى باختراعها فمنه ، تعلم الصناع وبه قصدوا الاقتداء وشرح ذلك يطول .

فسماع هذه الأصوات يستحيل أن يحرم لكونها طيبة أو موزونة فلا ذاهب إلى تحريم صوت العندليب وسائر الطيور .

ولا فرق بين حنجرة وحنجرة ولا بين جماد وحيوان .

فينبغي أن يقاس على صوت العندليب الأصوات الخارجة من سائر الأجسام باختيار الآدمي كالذي يخرج من حلقه أو من القضيب والطبل والدف وغيره .

ولا يستثنى من هذه إلا الملاهي والأوتار والمزامير التي ورد الشرع بالمنع منها لا للذتها إذ لو كان للذة لقيس عليها كل ما يلتذ به الإنسان .

ولكن حرمت الخمور واقتضت ضراوة الناس بها المبالغة في الفطام عنها حتى انتهى الأمر في الابتداء إلى كسر الدنان فحرم معها ما هو شعار أهل الشرب وهي الأوتار والمزامير فقط ، وكان تحريمها من قبل الأتباع كما حرمت الخلوة بالأجنبية لأنها مقدمة الجماع وحرم النظر إلى الفخذ لاتصاله بالسوأتين وحرم قليل الخمر وإن كان لا يسكر ; لأنه يدعو إلى السكر وما من حرام إلا وله حريم يطيف به وحكم الحرمة ينسحب على حريمه ليكون حمى للحرام ووقاية له وحظارا مانعا حوله كما قال صلى الله عليه وسلم إن لكل ملك حمى وإن حمى الله محارمه فهي محرمة تبعا لتحريم الخمر لثلاث علل : .

إحداها أنها : تدعو إلى شرب الخمر ، فإن اللذة الحاصلة بها إنما تتم بالخمر ولمثل هذه العلة حرم قليل الخمر .

التالي السابق


(الدرجة الثانية: النظر في الصوت الطيب الموزون فإن الوزن وراء الحسن فكم من صوت حسن خارج عن الوزون، وكم من صوت موزون غير مستطاب، والأصوات الموزونة باعتبار مخارجها ثلاثة بالاستقراء فإنها) لا تخلو (إما أن تكون من جماد) لا روح له (كصوت المزامير والأوتار، وصوت القضيب والطبل وغيره، وإما أن تخرج من حنجرة حيوان وذلك الحيوان إما إنسان وإما غيره فصوت العنادل) جمع عندليب (والقماري) جمع قمري ( وذوات السجع من الطيور مع طيبها) في نفسها (موزونة متناسبة المطالع والمقاطع، فلذلك يستلذ سماعها، والأصل في الأصوات حناجر الحيوانات، وإنما وضعت المزامير على صوت) وفي نسخة: على صور (الحناجر، وهي تشبيه للصنعة بالخلقة، وما من شيء توصل أهل الصناعات بصناعتهم إلى تصويره إلا وله مثال في الخلقة التي استأثر الله تعالى باختراعه، منه تعلم الصناع وبه قصدوا الاقتداء وشرح ذلك يطول) ليس هذا محل تفصيله .

( فسماع هذه الأصوات يستحيل أن يحرم لكونها طيبة أو موزونة فلا ذاهب إلى تحريم صوت العندليب [ ص: 472 ] وسائر الطيور) ذوات السجع ( ولا فرق بين حنجرة وحنجرة ولا بين جماد وحيوان، فينبغي أن يقاس على صوت العندليب الأصوات الخارجة من سائر الأجسام باختيار الآدمي كالذي يخرج من حلقه أو من القضيب والطبل والدف وغيره، ولا يستثنى عن هذه إلا الملاهي والأوتار والمزامير إذ ورد الشرع بالمنع عنها) في أخبار كثيرة:

منها: عند البخاري من حديث أبي عامر أو أبي مالك الأشعري: ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والمعازف. صورته عند البخاري صورة التعليق، ولذلك ضعفه ابن حزم ووصله أبو داود الإسماعيلي والمعازف الملاهي، قاله الجوهري، ولأحمد من حديث أبي أمامة أن الله أمرني أن أمحق المزامير والكبارات -يعني: البرابط- والمعازف. وله من حديث قيس بن سعد: إن ربي حرم علي الخمر والكوبة والقنين. وله في حديث لأبي أمامة باستحلالهم الخمور وضربهم بالدفوف وكلها ضعيفة، ولأبي الشيخ من حديث مكحول مرسلا: الاستماع إلى الملاهي معصية. الحديث، ولأبي داود من حديث ابن عمر: سمع مزمارا فوضع أصبعيه على أذنيه.

قال أبو داود: هو منكر، هكذا ساق العراقي هذه الأخبار باختصار، وسيأتي ذكر بعضها عند الجواب عن أدلة المحرمين ولا عبرة بتضعيف ابن حزم بعد أن وصله أبو داود الإسماعيلي، وكذا البيهقي والبخاري إذا علق شيئا بصيغة الجزم يحتج به، ثم إن البخاري علقه عن هشام بن عمارة، وقد لقيه فيحمل على السماع، فالحكم حينئذ للوصل كما هو معروف في موضعه .

(لا للذتها إذ لو كان للذة النفس لقيس عليها كل ما يلتذ به الإنسان، ولكن حرمت الخمور واقتضت ضراوة الناس لها) أي: الاعتياد لها والاجتراء عليها (المبالغة في الفطام عنها حتى انتهى الأمر في الابتداء إلى كسر الدنان) جمع دن وهو الذي كان تعمل فيه الخمور، ومنه قول الشاعر:


فصلى على دنها وارتسم



(فحرم معها ما هو شعار أهل الشرب وهي الأوتار والمزامير فقط، وكان تحريمها من قبل الاتباع) أي: لكونها من شعار أهل الشرب (كما حرمت الخلوة) بالأجنبية (لأنها مقدمة الجماع) ، ففي الخبر: ولا يخلون أحد بالأجنبية ولو أقرأها القرآن، (وحرم النظر إلى الفخذ) في حديث محمد بن جحش: غط فخذك فإنها عورة (لاتصاله بالسوأتين وحرم قليل الخمر وإن كان لا يسكر; لأنه يدعو إلى السكر) كما في حديث ابن عباس: حرمت الخمر لعينها قليلها وكثيرها، (وما من حرم إلا وله حريم يطيف به) أي: يدور به (وحكم الحرمة ينسحب) أي: يعم ( على جميع حريمه ليكون حمى الحرام وقاية له) وحفظا (وحظارا مانعا حوله كما قال -صلى الله عليه وسلم-) ألا و (إن لكل حمى محارمه) تقدم في كتاب الحلال والحرام، (فهي محرمة تابعة لتحريم الخمر بثلاث علل: إحداها: إنها تدعو إلى شرب الخمر، فإن اللذة الحاصلة بها إنما تتم بالخمر ولمثل هذه العلة حرم قليل الخمر) وإن لم يسكر .




الخدمات العلمية