الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وإن فرض دنانير مضروبة من .دنانير السلطان فهو بالإضافة إلى مال التجار أقل لا محالة ، نعم ، السلطان يظلم أجراء دار الضرب بأن يأخذ منهم ضريبة لأنه خصصهم بها من بين سائر الناس حتى توفر عليهم مال بحشمة السلطان فما يأخذه السلطان عوض من حشمته وذلك من باب الظلم وهو قليل بالإضافة إلى ما يخرج من دار الضرب ، فلا يسلم لأهل دار الضرب والسلطان من جملة ما يخرج منه من المائة واحد ، وهو عشر العشير ، فكيف يكون هو الأكثر ، فهذه أغاليط سبقت إلى القلوب بالوهم وتشمر لتزيينها جماعة ممن رق دينهم حتى قبحوا الورع وسدوا بابه ، واستقبحوا تمييز من يميز بين مال ومال ، وذلك عين البدعة والضلال .

فإن قيل : فلو قدر غلبة الحرام وقد اختلط غير محصور بغير محصور ، فماذا تقولون فيه إذا لم يكن في العين المتناولة علامة خاصة فنقول : الذي نراه أن تركه ورع ، وأن أخذه ليس بحرام ; لأن الأصل الحل ولا يرفع إلا بعلامة معينة كما في طين الشوارع ونظائرها بل أزيد ، وأقول : لو طبق الحرام الدنيا حتى علم يقينا أنه لم يبق في الدنيا حلال لكنت أقول نستأنف تمهيد الشروط من وقتنا ونعفو عما سلف ونقول : ما جاوز حده انعكس إلى ضده فمهما حرم الكل حل الكل ، وبرهانه أنه إذا وقعت هذه الواقعة فالاحتمالات خمسة .

; أحدها أن يقال : يدع الناس الأكل حتى يموتوا من عند آخرهم .

الثاني : أن يقتصروا منها على قدر الضرورة وسد الرمق يزجون عليها أياما إلى الموت .

. الثالث : أن يقال : يتناولون قدر الحاجة كيف شاءوا سرقة وغصبا وتراضيا من غير تمييز بين مال ومال ، وجهة وجهة .

. الرابع : أن يتبعوا شروط الشرع ، ويستأنفوا قواعده من غير اقتصار على قدر الحاجة .

الخامس : أن يقتصروا مع شروط الشرع على قدر الحاجة .

أما الأول فلا يخفى بطلانه .

وأما الثاني ، فباطل قطعا ; لأنه إذا اقتصر الناس على سد الرمق وزجوا أوقاتهم على الضعف فشا فيهم الموتان وبطلت الأعمال والصناعات وخربت الدنيا بالكلية ، وفي خراب الدنيا خراب الدين ; لأنها مزرعة الآخرة وأحكام الخلافة والقضاء والسياسات ، بل أكثر أحكام الفقه مقصودها حفظ مصالح الدنيا ليتم بها مصالح الدين .

وأما الثالث : وهو الاقتصار على قدر الحاجة من غير زيادة عليه مع التسوية بين مال ومال بالغصب والسرقة والتراضي وكيفما اتفق فهو رفع لسد الشرع بين المفسدين وبين أنواع الفساد فتمتد الأيدي بالغصب والسرقة وأنواع الظلم ولا يمكن زجرهم منه إذ يقولون ليس يتميز صاحب اليد باستحقاق عنا فإنه حرام عليه ، وعلينا وذو اليد له قدر الحاجة فقط فإن كان هو محتاجا فإنا أيضا محتاجون ، وإن كان الذي أخذته في حقي زائدا على الحاجة فقد سرقته ممن هو زائد على حاجته يومه وإذا لم يراع حاجة اليوم والسنة ، فما الذي نراعي وكيف ، يضبط ، وهذا يؤدي إلى بطلان سياسة الشرع وإغراء أهل الفساد بالفساد فلا يبقى إلا الاحتمال الرابع وهو أن يقال : كل ذي يد على ما في يده وهو أولى به لا ، يجوز أن يؤخذ منه سرقة وغصبا بل يؤخذ برضاه والتراضي هو طريق الشرع وإذا لم يجز إلا بالتراضي ، فللتراضي أيضا منهاج في الشرع تتعلق به المصالح فإن لم يعتبر فلم يتعين أصل التراضي وتعطل تفصيله .

وأما الاحتمال الخامس ، وهو الاقتصار على قدر الحاجة مع الاكتساب بطريق الشرع من أصحاب الأيدي فهو الذي نراه لائقا بالورع لمن يريد سلوك طريق الآخر ولكن لا وجه لإيجابه على الكافة ولا لإدخاله في فتوى العامة ; لأن أيدي الظلمة تمتد إلى الزيادة على قدر الحاجة في أيدي الناس ، وكذا أيدي السراق وكل من غلب سلب وكل من وجد فرصة سرق ، ويقول لا حق له إلا في قدر الحاجة ، وأنا محتاج ولا يبقى إلا أن يجب على السلطان أن يخرج كل زيادة على قدر الحاجة من أيدي الملاك ويستوعب بها أهل الحاجة ويدر على الكل الأموال يوما فيوما أو سنة فسنة ، وفيه تكليف شطط وتضييع أموال ، أما تكليف الشطط ، فهو أن السلطان لا يقدر على القيام بهذا مع كثرة الخلق ، بل لا يتصور ذلك أصلا .

التالي السابق


(فإن فرضت دنانير مضروبة من ذهب السلطان) الذي غصبه بعينه، (فهي بالإضافة إلى مال التجار) الواردين به إلى دار الضرب (أقل لا محالة، نعم، إن السلطان يظلم أجراء دار الضرب بأن يأخذ منهم ضريبة) ، أي: وظيفة مضروبة عليهم، يقال: ضرب الأمير عليه ضرابا جعله عليه وظيفة والاسم الضريبة، (ولأنه خصصهم بها من بين سائر الناس) مع إشرافهم إليها، (حتى توفر عليهم مال بحشمة السلطان فما يأخذه) السلطان منهم من ذلك (عوض حشمته وذلك من باب الظلم وهو قليل بالإضافة إلى ما يخرج من دار الضرب، فلا يسلم) أي: لا يبقى (لأهل دار الضرب والسلطان من جملة ما يخرج منها من المائة واحد، وهو عشر العشر، فكيف يكون هو الأكثر، فهذه أغاليط) جمع أغلوط، (سبقت إلى القلوب بالوهم) والخطأ (وتشمر لتأنيقها) أي: [ ص: 49 ] لتزيينها، يقال: أنق الكلام إذا جعله ذا أنق (جماعة ممن رق دينهم) ، أي: ضعف (حتى قبحوا الورع وسدوا بابه، واستقبحوا تمييز من يميز بين مال ومال، وذلك عين البدعة والضلال) ، وفي سلوك طريقة الوبال، (فإن قيل: فلو قدر غلبة الحرام وقد اختلط غير محصور بغير محصور ، فماذا تقولون إذا لم تكن في العين المتناولة علامة خاصة) تميز الحلال منه، (فنقول: الذي نراه أن تركه ورع، وأن أخذه ليس بحرام; لأن الأصل الحل) ، فنستصحب الأصل، (ولا يرفع إلا بعلامة معينة كما) قلنا: (في طين الشوارع ونظائره) عملا بظاهر القولين، (بل أزيد، وأقول: لو طبق الحرام الدنيا ) وغلب على أموالها (حتى علم يقينا) أي: عن طريق اليقين (أنه لم يبق في الدنيا حلال لكنت أقول يستأنف تمهيد الشروط من وقتنا ونعفو عما سلف) ، أي: مضى، (ونقول: ما جاوز حده انعكس إلى ضده) ، وهي قاعدة شريفة، وكذا قولهم إذا ضاق الأمر اتسع، (فمهما حرم الكل حل الكل، وبرهانه أنه إذا وقعت هذه الواقعة) أي: اتفق وقوعها في زمن .

(فالاحتمالات خمسة; أحدها أن يقال: يدع الناس الأكل) أي: يتركونه، (حتى يموتوا من عند آخرهم) لفساد البنية (الثاني: أن يقتصروا منها على قدر الضرورة) الداعية (وسد الرمق) أي: قدر ما يمسك به قوته ويحفظها، (ويزجون على ذلك) أي: يساقون أياما (إلى) أن يأتي (الموت. الثالث: أن يقال: يتناولون) منها (قدر الحاجة كيف شاءوا سرقة) كان (أو غصبا أو تراضيا) من الذي في يده (من غير تمييز بين مال ومال، وجهة وجهة. الرابع: أن يتبعوا شروط الشرع، ويستأنفوا قواعده) أي: العمل بها (من غير اقتصار على قدر الحاجة) ، بل يتوسعوا .

(الخامس: أن يقتصروا مع) اتباع (شروط الشرع على قدر الحاجة) ، فهذه خمس احتمالات، (أما الأول فلا يخفى بطلانه) ، إذ هو إلقاء بالأيدي إلى التهلكة وهو حرام، (وأما الثاني، فباطل قطعا; لأنه إذا اقتصر الناس على سد الرمق وزجوا أوقاتهم مع الضعف فشا فيهم الموتان) بالضم هو الموت الذريع، (وبطلت الأعمال والصناعات) التي عليها مدار نظام الدنيا، (وخربت الدنيا بالكلية، وفي خراب الدنيا خراب الدين; لأنها مزرعة الآخرة) ، تقدم الكلام عليها في مقدمة كتاب العلم، (وأحكام الخلافة) العظمى، (والقضاء والسياسات، بل أكثر أحكام الفقه مقصودها حفظ مصالح الدنيا ليتم بها مصالح الدين) ، فإنها منوطة بمصالح الدنيا، (وأما الثالث: وهو الاقتصار على قدر الحاجة من غير زيادة) ، عليه (مع التسوية) والتعديل (بين مال ومال) ، سواء (بالغصب) من أحد، (والسرقة) من حرز (والتراضي) من الجانبين (وكيفما اتفق) من هذه الوجوه (فهو رفع لحكم الشرع وفتح لباب سده الشرع بين المفسدين) الطاغين، (وبين أنواع الفساد) على اختلافها، (فتمتد الأيدي) وتسرق الأعين (بالغصب والسرقة) ، والنهب (وأنواع الظلم ولا يمكن زجرهم عنه) بحال (إذ يقولون لا يتميز صاحب اليد) الواضع لها عليه (باستحقاق عنا) ، ولا خصوصية (فإنه حرام عليه، وعلينا) جميعا (وذو اليد له قدر الحاجة فقط) ، وليس له التصرف في الزيادة، (فإن كان هو محتاجا فإنا أيضا محتاجون، وإن كان الذي أخذته في حقي زائدا على الحاجة فقد سرقته ممن هو زائد على حاجة يومه) فتساوينا (وإذا لم [ ص: 50 ] نراع حاجة اليوم أو السنة، فما الذي يراعى، فكيف يضبط، وهذا يؤدي إلى بطلان سياسة الشرع) بالكلية، بل يفضي إلى هدم أركانها (وإغراء أهل الفساد) ، والظلم وتجريهم (بالفساد) المهلك، (فلا يبقى إلا الاحتمال الرابع وهو أن يقال: كل ذي يد على ما في يده) من المال (وهو أولى به، ولا يجوز أن يؤخذ منه سرقة أو غصبا) ، أو نهبا (بل يؤخذ برضاه) ، ومواطأته عليه، (والتراضي هو طريقة الشرع) ، وباب من أبوابه، (وإذا لم يجوز إلا التراضي، فللتراضي أيضا منهاج في الشرع) معروف، (تتعلق به المصالح) والأحكام، (فإن لم يعتبر فلم يتعين أصل التراضي وتعطل تفصيله، وأما الاحتمال الخامس، وهو الاقتصار على قدر الحاجة مع الاكتساب بطريق الشرع من أصحاب الأيدي) المالكة، (فهو الذي نراه لائقا بالورع) والتقوى (لمن يريد سلوك طريق الآخرة) ويعتمدها، (ولكن لا وجه لإيجابه على الكافة) ، أي: جميع الناس، (و) لا وجه أيضا (لإدخاله في فتوى العامة; لأن أيدي الظلمة تمتد إلى الزيادة على قدر الحاجة في أيدي الناس، وكذا أيدي السراق) ، أي: تمتد كذلك، (فكل من غلب) بقوته (سلب) غيره، (وكل من وجد فرصة) وغفلة (سرق، ويقول) في احتجاجه (لا حق له إلا في قدر الحاجة، وأنا محتاج فلا يبقى إلا أن يجب على السلطان أن يخرج كل زيادة على الحاجة من أيدي الملاك ويستوعب بها أهل الحاجة) ، أي: يعم بها إياهم (ويدر على الكل الأموال يوما فيوما) أو شهرا فشهرا، (أو سنة فسنة، وفيه تكليف شطط) محرج، (وتضييع أموال، أما تكليف الشطط، فهو أن السلطان لا يقدر على القيام بها مع كثرة الخلق، بل لا يتصور ذلك أصلا) ، وقد يقال: إن التكليف المذكور متعين، ودعوى عدم التصور ممنوع، فإن السلطان يمكنه الإفاضة عرفا وأمنا على كل قبيلة، بل على كل حارة من كل مدينة، فيقسطون على الكل ما يخصهم قدر الحاجة بما يرون، أما في كل شهر مرة أو مرات، فهذا غير محال على الملوك فتأمل .




الخدمات العلمية