الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والأموال كانت في أيدي المكذبين له والمصدقين ، أما المكذبون فكانوا يتعاملون بغير شرع عيسى عليه السلام وأما المصدقون فكان يتساهلون مع أصل التصديق كما يتساهل الآن المسلمون مع أن العهد بالنبوة أقرب فكانت الأموال كلها أو أكثرها أو كثير منها حراما وعفا صلى الله عليه وسلم عما سلف ولم يتعرض له وخصص أصحاب الأيدي بالأموال ومهد الشرع وما ثبت تحريمه في شرع لا ينقلب حلالا لبعثة رسول ولا ينقلب حلالا بأن يسلم الذي في يده الحرام فإنا لا نأخذ في الجزية من أهل الذمة ما نعرفه بعينه أنه ثمن خمر أو مال ربا فقد كانت أموالهم في ذلك الزمان كأموالنا الآن وأمر العرب كان أشد لعموم النهب والغارة فيهم .

فبان أن الاحتمال الرابع متعين في الفتوى والاحتمال الخامس هو طريق الورع بل تمام الورع الاقتصار في المباح على قدر الحاجة وترك التوسع في الدنيا بالكلية وذلك طريق الآخرة .

ونحن الآن نتكلم في الفقه المنوط بمصالح الخلق وفتوى الظاهر له حكم ومنهاج على حسب مقتضى المصالح وطريق الدين الذي لا يقدر على سلوكه إلا الآحاد ولو اشتغل الخلق كلهم به لبطل النظام وخرب العالم ، فإن ذلك طلب ملك كبير في الآخرة ولو اشتغل كل الخلق بطلب ملك الدنيا وتركوا الحرف الدنيئة والصناعات الخسيسة لبطل النظام ثم يبطل ببطلانه الملك أيضا .

فالمحترفون إنما سخروا لينتظم الملك للملوك ، وكذلك المقبلون على الدنيا سخروا ليسلم طريق الدين لذوي الدين ، وهو ملك الآخرة ولولاه لما سلم لذوي الدين أيضا دينهم فشرط سلامة الدين لهم أن يعرض الأكثرون عن طريقهم ويشتغلوا بأمور الدنيا وذلك قسمة سبقت بها المشيئة الأزلية وإليه الإشارة بقوله تعالى: نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا .

فإن قيل : لا حاجة إلى تقدير عموم التحريم حتى لا يبقى حلال ، فإن ذلك غير واقع وهو معلوم ولا شك في أن البعض حرام ، وذلك البعض هو الأقل أو الأكثر فيه نظر ، وما ذكرتموه من أنه الأقل بالإضافة إلى الكل جلي ولكن لا بد من دليل محصل على تجويزه ليس من المصالح المرسلة ، وما ذكرتموه من التقسيمات كلها مصالح مرسلة فلا بد لها من شاهد معين تقاس عليه حتى يكون الدليل مقبولا بالاتفاق ، فإن بعض العلماء لا يقبل المصالح المرسلة .

التالي السابق


(والأموال كانت في أيدي المكذبين) لشريعته، (والمصدقين، أما المكذبون فكانوا يتعاملون بغير شرع عيسى عليه السلام) ; لأنهم كانوا يخالفونه فيما يقول، (وأما المصدقون فكانوا يتساهلون) في معاملاتهم (مع أصل التصديق بنبوته كما يتساهل الآن المسلمون مع أن العهد بالنبوة أقرب) ، ولكن لغلبة الجهل وإفراط العناد، (فكانت الأموال كلها أو أكثرها أو كثير منها حراما) ، لعدم جريان التصريف فيها بموجب الشريعة، (وعفا صلى الله عليه وسلم عما سلف ولم يتعرض له) بسؤال ولا بحث، (وخصص أصحاب الأيدي بالأموال) التي بأيديهم، (ومهد الشرع) ووضع أصوله (وما ثبت تحريمه في شرع) من الشرائع (لا ينقلب حلالا لبعثة رسول) من الرسل، (ولا ينقلب حلالا بأن يسلم الذي في يده الحرام) أي: بانتقاله إلى دين آخر، (فإنا لا نأخذ في الجزية) ، وهي بالكسر اسم لما يؤخذ من أموال أهل الذمة (ما نعرفه بعينه) ، أي: بذاته (أنه ثمن خمر) مثلا، (أو مال ربا) أو غير ذلك من طرق الحرام، (فقد كانت أموالهم في ذلك الزمان كأموالنا الآن) في الخلطة، (وأمر العرب) ما عدا الطوائف المذكورة، (كانت أشد) من أمرهم; (لعموم النهب والغارة فيهم) ، فإنه كما ثبت في سير أحوالهم أنهم كانوا ينهبون الإبل وغيرها، ويغيرون على بعضهم فيستبيحون النساء والأموال، (فبان) أي: ظهر (أن الاحتمال الرابع) الذي تقدم (متعين في الفتوى) الظاهرة، (والاحتمال الخامس طريق الورع) والاحتياط (بل تمام الورع ) ، هو (الاقتصار في) تناول (المباح على قدر الحاجة) والاضطرار (وترك التوسع في) أمور الدنيا بالكلية، و (ذلك هو طريق الآخرة) لمن يسلكها (ونحن الآن نتكلم في الفقه المنوط) أي: المرتبط (بمصالح الخلق) الدينية والدنيوية .

(وفتوى الظاهر له حكم ومنهاج على حسب مقتضى المصالح) المذكورة، (وطريق الدين) صعب المرتقى (لا يقدر على سلوكه إلا الآحاد) من المنفردين، (ولو اشتغل الخلق كلهم به لبطل النظام) المطلوب، (وخرب العالم، فإن ذلك) أي: سلوك طريق الدين، (طلب ملك كبير في الآخرة) المشار إليه بقوله تعالى: نعيما وملكا كبيرا ، (ولو اشتغل كل الخلق بطلب ملك الدنيا) الذي هو الرياسة على الناس (وتركوا الحرف الدنيئة) ، أي: الحقيرة، (والصناعات الخسيسة بطل النظام) ، فقد أقام الله كل إنسان فيما يسر له، وبورك فيما حضر له، (ثم يبطل ببطلانه الملك أيضا) ، ولا يستقيم، (فالمحترفون إنما سخروا) لحرفهم، (ليسلم الملك للملوك، وكذلك المقبلون على الدنيا) ، أي: على تحصيلها (سخروا ليسلم طريق الدين لذوي الدين، وهو) أي: طريق الدين، (ملك الآخرة ولولاه) أي: ذلك التسخير (لا يسلم لذوي الدين أيضا دينهم) لافتقارهم إلى ما يتعيشون به في الجملة، فلولا أهل الدنيا لهلك أهل الدين، (فشرط سلامة الدين لهم) أي: لأهله (أن يعرض الأكثرون عن طريقهم) إعراضا ولو قريبا، (وليشتغلوا بأمور الدنيا) ليكون بذلك إعانة منهم لأهل الدين، (وكل ذلك قسمة) إلهية (سبقت بها المشيئة الأزلية) من الأزل، (وإليه الإشارة بقوله تعالى:) نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا [ ص: 53 ] ( ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا )

(فإن قيل: لا حاجة إلى تقدير عموم التحريم حتى لا يبقى حلال، فإن ذلك غير واقع) في المشاهد، (وهو معلوم ولا شك في أن البعض حرام، وذلك البعض هو الأقل) بالإضافة إلى الكثير والأكثر، (أو الأكثر فيه نظر، وما ذكرتموه من أنه الأقل بالإضافة إلى الكل جلي) ، أي: ظاهر (ولكن لا بد من دليل محصل على تجويزه) ، أي: جعله جائزا، (ليس من المصالح المرسلة، وما ذكرتموه من التقسيمات كلها مصالح مرسلة فلا بد لها) من شاهد معين يقاس عليه حتى يكون الدليل مقبولا (بالاتفاق، فإن بعض العلماء لا يقبل المصالح المرسلة ) قلت: وقيل: هو من جملة الأدلة المقبولة .

قال الإسنوي في شرح المنهاج: اعلم أن المناسب قد يعتبره الشارع، وقد يلغيه، وقد لا يعلم حاله، وهذا الثالث هو المسمى بالمصالح المرسلة، ويعبر عنه بالمناسب المرسل، وفيه ثلاث مذاهب أحدها أنه غير معتبر مطلقا .

قال ابن الحاجب : وهو المختار، وقال الآمدي : هو الحق الذي عليه الفقهاء. والثاني أنه حجة مطلقا، وهو مشهور عن مالك ، واختاره إمام الحرمين ، قال ابن الحاجب : وقد نقل أيضا عن الشافعي ، وكذلك قال إمام الحرمين إلا أنه شرط فيه أن تكون المصالح مشبهة بالمصالح المعتبرة .

والثالث وهو رأي الغزالي ، واختاره المصنف أنه إن كانت المصلحة ضرورية قطعية كلية اعتبرت، وإلا فلا، فالضرورية هي التي تكون من إحدى الضروريات الخمس، وهي حفظ الدين والنفس والعقل والمال والنسب، وأما القطعية فهي التي تجزم بحصول المصلحة فيها، والكلية هي التي تكون موجبة لفائدة عامة المسلمين، ومثال ذلك ما إذا صال علينا كفار تترسوا بأسارى المسلمين وقطعنا بأنا لو امتنعنا عن الترس لصدمونا واستولوا على ديارنا وقتلوا المسلمين كافة حتى الترس، ولو رمينا الترس لقتلنا مسلما من غير ذنب صدر، فإن قيل الترس والحالة هذه مصلحة مرسلة لكونه لم يعهد في الشرع جواز قتل مسلم بلا ذنب، ولم يقم أيضا دليل على عدم جواز قتله عند اشتماله على مصلحة عامة للمسلمين، لكنها مصلحة ضرورية كلية، فلذلك يصح اعتبارها، أي: يؤدي اجتهاد مجتهد إلى أن يقول: هذا الأسير مقتول بكل حال، فحفظ كل المسلمين أقرب إلى مقصود الشارع من حفظ مسلم واحد، فإن لم تكن المصلحة ضرورية، بل كانت من التتمات فلا اعتبار بها، كما إذا تترس الكفار في قلعة بمسلم فإنه لا يحل رميه إذ لا ضرورة فيه، فإن حفظ ديننا غير متوقف على استيلائنا على تلك القلعة، وكذلك إذا لم تكن قطعية كما إذا لم يقطع بتسليط الكفار علينا عند عدم رمي الترس، أو لم تكن كلية كما إذا أشرفت السفينة على الغرق، وقطعنا بنجاة الذين فيها لو رمينا واحدا منهم في البحر; لأن نجاة أهل السفينة ليست مصلحة كلية، وأما مالك فقد اعتبره مطلقا أي: سواء كان معها هذه القيود أو لم يكن قال: لأن الشيء إذا احتمل مصلحة خالصة أو راجحة يجب أن يكون في الشرع معتبرا، وإن لم يعتبر بعينه; لأن اعتبار الشرع جنس المصلحة يوجب اعتبار ظن هذه المصلحة المندرجة تحته والعمل بالظن واجب، ولأن الصحابة قنعوا في الاستدلال بمجرد المصلحة، فلو لم يكن دليلا لما قنعوا .




الخدمات العلمية