الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقد انتهت محبة الله بقوم إلى أن قالوا : لا نفرق بين البلاء والنعمة ، فإن الكل من الله ولا نفرح إلا بما فيه رضاه حتى قال بعضهم : لا أريد أن أنال مغفرة الله بمعصية الله .

وقال سمنون .


وليس لي في سواك حظ فكيفما شئت فاختبرني

وسيأتي تحقيق ذلك في كتاب المحبة .

والمقصود أن حب الله إذ قوي أثمر حب كل من يقوم بحق عبادة الله في علم أو عمل وأثمر حب كل من فيه صفة مرضية عند الله من خلق حسن أو تأدب بآداب الشرع .

وما من محب للآخرة ومحب لله إلا إذا أخبر عن حال رجلين أحدهما عالم عابد والآخرة جاهل فاسق إلا وجد في نفسه ميلا إلى العالم العابد ، ثم يضعف ذلك الميل ويقوى بحسب ضعف إيمانه وقوته ، وبحسب ضعف حبه لله وقوته ، وهذا الميل حاصل وإن كانا غائبين عنه بحيث يعلم إنه لا يصيبه منهما خير ولا شر في الدنيا ولا في الآخرة ، فذلك الميل هو حب في الله ولله من غير حظ فإنه إنما يحبه ؛ لأن الله يحبه ، ولأنه مرضي عند الله تعالى ، ولأنه يحب الله تعالى ، ولأنه مشغول بعبادة الله تعالى إلا أنه إذا ضعف لم يظهر أثر ولا ، يظهر به ثواب ولا أجر فإذا ، قوي حمل على الموالاة والنصرة والذب بالنفس والمال واللسان وتتفاوت ، الناس فيه بحسب تفاوتهم في حب الله عز وجل ولو كان الحب مقصورا على حظ ينال من المحبوب في الحال أو المآل لما تصور حب الموتى من العلماء والعباد ومن الصحابة والتابعين بل من الأنبياء المنقرضين صلوات الله عليهم وسلامه ، وحب جميعهم مكنون في قلب كل مسلم متدين ويتبين ذلك بغضبه عند طعن أعدائهم في واحد منهم ويفرحه عند الثناء عليهم وذكر محاسنهم وكل ذلك حب لله لأنهم خواص عباد الله .

ومن أحب ملكا أو شخصا جميلا أحب خواصه وخدمه وأحب من أحبه إلا أنه يمتحن الحب بالمقابلة بحظوظ النفس ، وقد يغلب بحيث لا يبقى لنفس حظ إلا فيما هو حظ المحبوب ، وعنه عبر قول من قال:


أريد وصاله ويريد هجري     فأترك ما أريد لما يريد

وقول من قال :


وما لجرح إذا أرضاكم ألم

.

وقد يكون الحب بحيث يترك به بعض الحظوظ دون بعض كمن تسمح نفسه بأن يشاطر محبوبه في نصف ماله ، أو في ثلثه أو في عشره فمقادير الأموال موازين المحبة إذ لا تعرف درجة المحبوب إلا بمحبوب يترك في مقابلته ، فمن استغرق الحب جميع قلبه لم يبق له محبوب سواه ، فلا يمسك لنفسه شيئا مثل أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، فإنه لم يترك لنفسه أهلا ولا مالا فسلم ابنته التي هي قرة عينه وبذل جميع ماله .

قال ابن عمر رضي الله عنهما بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وعنده أبو بكر وعليه عباءة قد خللها على صدره بخلال إذ نزل جبريل عليه السلام فأقرأه عن الله السلام وقال له : يا رسول الله ما لي ، أرى أبا بكر عليه عباءة قد خللها على صدره بخلال ، فقال : أنفق ماله علي قبل الفتح ، قال فأقره : من الله السلام وقل له : يقول لك ربك : أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط قال ؟ فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر وقال : يا أبا بكر ، هذا جبريل يقرئك السلام من الله ويقول : أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط قال ؟ فبكى أبو بكر رضي الله عنه وقال : أعلى ربي أسخط أنا عن ربي راض .

فحصل من هذا أن كل من أحب عالما أو عابدا ، أو أحب شخصا راغبا في علم أو في خير ، فإنما أحبه في ، الله ولله ، وله فيه من الأجر والثواب بقدر قوة حبه ، فهذا شرح الحب في الله ودرجاته ، وبهذا يتضح البغض في الله أيضا ، ولكن نزيده بيانا .

التالي السابق


(وقد انتهت محبة الله تعالى بقوم إلى أن قالوا: لا فرق بين البلاء والنعمة، فإن الكل من لدنه) ، أي: من عنده، (ولا نفرح إلا بما فيه رضاه) ، وعليه يحمل ما مر عن الشيخ الأكبر قدس سره في شرح حديث: "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق وغير ذلك مما مر من ذكر الاعتبارات في كتاب أسرار الصلاة والصوم والزكاة والحج. (حتى قال بعضهم: لا أريد أن أنال مغفرة الله بمعصية الله) ، وقد سقطت هذه الجملة من بعض النسخ، (وقال شقيق) البلخي رحمه الله تعالى:


( وليس لي في سواك حظ فكيفما شئت فاختبرني )

.

أورده القشيري في أول الرسالة في ترجمة سمنون المحب أنه أنشد هذا البيت، فأخذه الأسد من ساعته، فكان يدور على المكاتب ويقول للصبيان: ادعوا لعمكم الكذاب، (وسيأتي ذلك في كتاب المحبة إن شاء الله تعالى، والمقصود أن حب الله تعالى إذا قوي ) واستقام بالقلب (أثمر حب كل من يقوم بحق عبادة الله) تعالى في (علم أو عمل وأثمر حب كل من فيه صفة مرضية عند الله) تعالى (من خلق حسن وتأدب بأدب الشرع) من أوامر ونواهي، (وما من مؤمن محب للآخرة محب لله) تعالى (إلا إذا أخبر عن حال رجلين أحدهما عالم عابد) أي: قد جمع مع العبادة العلم (والآخر جاهل فاسق) أي: قد جمع مع الجهل الفسق (إلا وجد في نفسه ميلا إلى العالم العابد، ثم يضعف ذلك الميل ويقوى بحسب ضعف إيمانه وقوته، وبحسب حبه لله وقوته، وهذا الميل حاصل وإن كانا غائبين عنه) في محل بعيد (بحيث يعلم أنه لا يصيبه منهما خير ولا شر [ ص: 190 ] في الدنيا ولا في الآخرة، فذلك الميل هو حب في الله تعالى ولله تعالى من غير حظ) مضمر في نفسه (فإنه إنما يحبه; لأن الله سبحانه محبه، ولأنه مرضي عند الله تعالى، ولأنه يحب الله تعالى، ولأنه مشغول بعبادة الله عز وجل) ، فهذه الأوصاف كلها مما تنشئ الحب فيه (إلا أنه إذا ضعف) ذلك الحب (لم يظهر أثره، فلا يظهر له ثواب واحد، وإذا قوي حمل على الموالاة) والممالأة (والنصرة والذب) أي: الدفع عنه، (بالنفس والمال واللسان، ويتفاوت الناس فيه بحسب تفاوتهم في حب الله تعالى) بحسب القوة والضعف، (ولو كان الحب مقصورا على حظ) من الحظوظ (ينال من المحبوب في الحال) عاجلا، (أو) في (المآل) آجلا (لما تصور حب الموتى) أي: الذين مضوا إلى رحمة الله تعالى (من العلماء) العاملين، (والعباد) الصالحين، (ومن الصحابة) الكرام (والتابعين) الأعلام، (بل من الأنبياء المنقرضين صلوات الله عليهم) وسلامه (أجمعين، وحب جميعهم مكنون في قلب كل مسلم متدين) لا محالة، (ويتبين ذلك بمصيبته) ، وفي نسخة بغضبه وفي أخرى بغيظه (عند طعن أعدائهم) من ذوي البدع الفاسدة (في واحد منهم) ، فيتعصب لهم ويرد على طاعنهم، (وبفرحه عند الثناء عليهم وذكر محاسنهم) فينشرح صدره لذلك، (وكل ذلك حب لله) تعالى; (لأنهم خواص عباد الله) وخلصاؤه ومختاروه، ( ومن أحب ملكا أو شخصا جميلا أحب خواصه وخدمه ) ، وأتباعه (وأحب من أحبه) ، فمحب المحب حبيب (إلا أنه يمتحن الحب بالمقابلة بحظوظ النفس، وقد يغلب) الحب (بحيث لا يبقى للنفس حظ إلا فيما هو حظ المحبوب، وعنه عبر قول من قال:


أريد وصاله ويريد هجري فأترك ما أريد لما يريد



وكقول من قال) :


إن كان يرضيكم ما قال حاسدنا


( فما بجرح إذا أرضاكم ألم



وقد يكون الحب بحيث يترك به بعض الحظوظ دون بعض كمن تسمح نفسه بأن يشاطر محبوبه في نصف ماله، أو في ثلثه أو في عشره) ، أو في أقل أو في أكثر، (فمقادير الأموال موازين المحبة) ، ولكن الذي لا يبقي له شيئا هو أعلى الرتب، (إذ لا يعرف درجة المحبوب إلا بمحبوب يترك في مقابلته، فمن استغرق الحب جميع قلبه) وعمه (لم يبق له محبوب سواه، فلا يملك لنفسه) ، وفي نسخة: دونه، (شيئا مثل أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فإنه لم يترك لنفسه أهلا ولا مالا فسلم ابنته التي هي قرة عينه) ، وهي عائشة رضي الله عنها إذ زوجها له، (وبذل جميع ماله) إنفاقا عليه، فكانت يده ويد النبي صلى الله عليه وسلم فيه سواء .

أخرج ابن عدي من طريق الفضل بن المختار عن أبان عن أنس رفعه: "قال لأبي بكر : يا أبا بكر ، ما أطيب مالك منه بلال مؤذني وناقتي التي هاجرت عليها، وزوجتي ابنتك، وواسيتني بنفسك ومالك، كأني أنظر إليك على باب الجنة تشفع لأمتي" .

قال صاحب الميزان: وهذا باطل .

وأخرج ابن النجار في تاريخه من طريق عمر بن صبيح عن يزيد الرقاشي عن أنس رفعه: إن أعظم الناس علي منة أبو بكر ، زوجني ابنته، وواساني بماله، وصاحبني بالغار، وإن أفضل أموال المسلمين مال أبي بكر ، منه ناقتي التي هاجرت عليها، ومنه مؤذني بلال " . عمر بن صبيح متروك، قال ( ابن عمر ) رضي الله عنهما (بينما النبي صلى الله عليه وسلم جالس وعنده أبو بكر رضي الله عنه عليه عباءة) من صوف (قد خللها) أي: شكها (على صدره بخلال إذ نزل جبريل ) عليه السلام، (فأقرأه من الله السلام وقال له: يا رسول الله، ما لي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خللها على صدره بخلال، فقال: أنفق ماله علي قبل الفتح، قال: فأقرئه من الله السلام وقل له: يقول لك ربك: أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط؟ فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 191 ] إلى أبي بكر رضي الله عنه وقال: يا أبا بكر ، هذا جبريل يقرئك السلام من الله) تعالى (ويقول: أراض أنت في فقرك هذا أم ساخط؟ فبكى أبو بكر ) رضي الله عنه (وقال: أعلى ربي أسخط أنا عن ربي راض أنا عن ربي راض) ، ولقد استظرف بعض المتأخرين من الشعراء فأشار إلى هذه القصة في قوله يمدح أبا بكر رضي الله عنه:


صهر النبي وصنوه وصديقه وصفيه وضجيعه تحت الثرى
والمنفق الأموال في مرضاته حتى تخلل بعد ذلك بالعبا



قال العراقي : رواه ابن حبان والعقيلي في كتاب الضعفاء، قال الذهبي في الميزان: هو كذب، (فحصل من هذا) التفصيل والبيان ( أن كل من أحب عالما أو عابدا، أو أحب شخصا راغبا في علم أو عبادة أو خير، فإنما أحب لله، وفي الله ، وله فيه من الأجر والثواب بقدر قوة حبه، فهذا شرح الحب في الله ودرجاته، وبهذا يتضح البغض في الله تعالى، ولكن نزيده بيانا) .




الخدمات العلمية