الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وأما الأثر فإن ابن مسعود رضي الله عنه اشترى جارية فلم يظفر بمالكها لينقده الثمن فطلبه كثيرا فلم يجده فتصدق بالثمن ، وقال : اللهم هذا عنه إن رضي وإلا فالأجر لي .

وسئل الحسن رضي الله عنه عن توبة الغال وما يؤخذ منه بعد تفرق الجيش فقال : يتصدق به .

وروي أن رجلا سولت له نفسه فغل مائة دينار من الغنيمة ثم أتى أميره ليردها عليه فأبى أن يقبضها وقال له : تفرق الناس فأتى معاوية فأبى أن يقبض فأتى بعض النساك ، فقال ادفع خمسها : إلى معاوية وتصدق بما يبقى فبلغ معاوية قوله : فتلهف إذا لم يخطر له ذلك وقد ذهب أحمد بن حنبل والحارس المحاسبي وجماعة من الورعين إلى ذلك .

وأما القياس فهو أن يقال : إن هذا المال مردد بين أن يضيع وبين أن يصرف إلى خير إذ قد وقع اليأس من مالكه وبالضرورة يعلم أن صرفه إلى خير أولى من إلقائه في البحر ، فإنا إن رميناه في البحر ، فقد فوتناه على أنفسنا وعلى المالك ، ولم تحصل منه فائدة ، وإذا رميناه في يد فقير يدعو لمالكه حصل للمالك بركة دعائه ، وحصل للفقير سد حاجته وحصول الأجر للمالك بغير اختياره في التصدق لا ينبغي أن ينكر ، فإن في الخبر الصحيح إن للزارع والغارس أجرا في كل ما يصيبه الناس والطيور من ثماره وزرعه .

وذلك بغير اختياره .

التالي السابق


(وأما الأثر فإن ابن مسعود ) رضي الله عنه يروى عنه (أنه اشترى جارية ولم يظهر مالكها لينقده الثمن) أي: يعطيه نقدا، (فطلبه كثيرا) في مظانه، (فلم يجده) ، وأيس منه، (فتصدق بالثمن، وقال: اللهم هذا عنه إن رضي وإلا فالأجر لي) ، فهذا صريح في جواز التصدق بما ليس له ، (وسئل الحسن) البصري (عن توبة الغال ) ، وهو الذي غل من الغنيمة قبل تقسيمها، (و) عن (ما يؤخذ منه بعد تفرق الجيش) ماذا يعمل به، (فقال: يتصدق به) ، ولولا ذلك لما صحت توبته، (وروي أن رجلا سولت له نفسه) ، أي: زينت (فغل ثمانية دنانير من الغنيمة) أي: قبل أن تقسم، (ثم) تاب إلى الله تعالى، و (أتى أميره ليرد عليه) ذلك، (فأبى أن يقبضها) ، وفي نسخة: أن يقبضه، (وقال: تفرق الناس فأتى معاوية ) رضي الله عنه، وهو الأمير الأكبر، (فأبى أن يقبضها) وفي نسخة: أن يقبضه، (فرأى بعض النساك فحدثه خبره، فقال: ارفع إلى معاوية خمسة) لكونه أمير المؤمنين، (وتصدق بما بقي) على الفقراء، (فبلغ معاوية قوله: فتلهف إذ لم يخطر له ذلك) أي: بالبال، (وقد ذهب أحمد بن حنبل والحارث المحاسبي ) رحمهما الله تعالى، (وجماعة من المتورعين إلى ذلك، وأما القياس وهو أن يقال: إن هذا المال مردد بين أن يضيع) ويهلك، (وبين أن يصرف إلى خير إذ وقع اليأس عن مالكه) ، فلعله مات، (وبالضرورة يعلم أن صرفه إلى خير أولى من إلقائه في البحر، فإنا إن رميناه في البحر، فقد فوتناه على أنفسنا وعلى المالك، ولم تحصل منه فائدة، وإذا رميناه في يد فقير يدعو لمالكه حصلت للمالك بركة دعائه، وحصل للفقير سد حاجته وحصول الأجر للمالك بغير اختياره في التصديق لا ينبغي أن ينكر، فإن في الخبر الصحيح أن للزارع والغارس أجرا في كل ما يصيبه الناس والطيور من ثماره) وزرعه (وذلك بغير اختياره) ، قال العراقي : رواه البخاري من حديث أنس بلفظ: "ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا، فيأكل منه إنسان أو طير أو بهيمة، إلا كان له به صدقة اهـ .

قلت: ورواه أيضا الطيالسي وأحمد ومسلم والترمذي ، كلهم من حديث أنس ، ورواه هذه الثلاثة أيضا دون الترمذي من حديث جابر رواه أحمد والطبراني من حديث أم بشر ، ورواه الطبراني أيضا من حديث أبي الدرداء ، وعند بعضهم زيادة: "أو سبع أو دابة" .

وروى مسلم عن جابر : ما من مسلم يغرس غرسا إلا كان ما أكل منه له [ ص: 104 ] صدقة وما سرق منه صدقة، وما أكل السبع فهو له صدقة، وما أكلت الطير فهو له صدقة ولا يرزؤه أحد إلا كان له صدقة ، ورواه عبد بن حميد نحوه .

وروى أحمد والباوردي ، وسمويه من حديث أبي أيوب : ما من رجل يغرس غرسا إلا كتب الله له من الأجر قدر ما يخرج من ثمر ذلك الغرس ، ورجاله رجال الصحيح إلا عبد المؤمن بن عبد العزيز الليثي ضعفه جماعة، ووثقه مالك ، وسعيد بن منصور شرح حديث أنس قوله: "ما من مسلم يغرس غرسا" أي: مغروسا، والمراد الشجر، أو زرعا أي: مزروعا، وأو للتنويع; لأن الغرس غير الزرع، وخرج الكافر، فلا يثاب في الآخرة على شيء من ذلك، ونقل عياض فيه الإجماع، والمراد بالمسلم الجنس فيشمل المرأة، وقوله: إلا كان له به صدقة، أي: يجعل لزارعه وغارسه ثواب سواء تصدق بالمأكول، أو لا، قال الطيبي في شرح المشكاة: الرواية برفع صدقة على أن كان تامة، ونكر مسلما وأوقعه في سياق النفي، وزاد من الاستغراقية وخص الغرس والشجر، وعم الحيوان ليدل على سبيل الكناية الإيماء به على أن المراد أي مسلم حرا أم عبدا مطيعا أو عاصيا يعمل أي عمل من المباح، ينتفع بما عمله أي حيوان كان يرجع نفعه إليه ويثاب عليه، وفيه أن المتسبب في الخير له أجر العامل به، هبه من أعمال البر أو من مصالح الدنيا، وذلك يتناول من غرس لنفسه أو عياله، وإن لم ينو ثوابه، ولا يختص بمباشر الغرس أو الزرع، بل يشمل من استأجر لعمله .




الخدمات العلمية