الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والمأثور عن العلماء من الكلمات ينقسم إلى كلمات مطلقة تدل على الميل إلى أحد الرأيين وإلى ، كلمات مقرونة بما يشير إلى علة الميل .

فلننقل ، الآن مطلقات تلك الكلمات لنبين المذاهب فيها ، وما هو مقرون بذكر العلة نورده عند التعرض للغوائل والفوائد ، فنقول : قد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : خذوا بحظكم من العزلة .

وقال ابن سيرين : العزلة عبادة .

وقال الفضيل كفى بالله محبا وبالقرآن مؤنسا وبالموت واعظا .

وقيل : اتخذ الله صاحبا ودع الناس جانبا .

وقال أبو الربيع الزاهد : لداود الطائي : عظني ، قال : صم عن الدنيا واجعل فطرك الآخرة ، وفر من الناس فرارك من الأسد .

وقال الحسن رحمه الله كلمات أحفظهن من التوراة : قنع ابن آدم فاستغنى ، اعتزل الناس فسلم ترك الشهوات فصار حرا وترك ، الحسد فظهرت مروءته ، صبر قليلا فتمتع طويلا .

وقال وهيب ابن الورد بلغنا أن الحكمة عشرة أجزاء ، تسعة منها في الصمت والعاشر في عزلة الناس .

وقال يوسف بن مسلم لعلي بن بكار ما أصبرك على الوحدة ، وقد كان لزم البيت ، فقال : كنت وأنا شاب أصبر على أكثر من هذا كنت أجالس الناس ولا أكلمهم .

وقال سفيان الثوري هذا وقت السكوت وملازمة البيوت .

وقال بعضهم : كنت في سفينة ومعنا شاب من العلوية فمكث معنا سبعا لا نسمع له كلاما فقلنا له : يا هذا قد جمعنا الله وإياك منذ سبع ولا نراك تخالطنا ولا تكلمنا ، فأنشأ يقول:


قليل الهم لا ولد يموت ولا أمر يحاذره يفوت     قضى وطر الصبا وأفاد علما
فغايته التفرد والسكوت

وقال إبراهيم النخعي لرجل تفقه ثم اعتزل وكذا قال الربيع بن خثيم .

وقيل : كان مالك بن أنس يشهد الجنائز ويعود المرضى ويعطي الإخوان حقوقهم فترك ذلك واحدا واحدا حتى تركها كلها وكان يقول لا يتهيأ للمرء أن يخبر كل عذر له .

وقيل لعمر بن عبد العزيز لو تفرغت لنا فقال ذهب الفراغ فلا فراغ إلا عند الله تعالى وقال الفضيل إني لأجد للرجل عندي يدا إذا لقيني أن لا يسلم علي وإذا مرضت أن لا يعودني .

وقال أبو سليمان الداراني بينما الربيع ابن خثيم جالس على باب داره إذ جاءه حجر فصك جبهته فشجه فجعل يمسح الدم ويقول : لقد وعظت يا ربيع فقام ودخل داره فما جلس بعد ذلك على باب داره حتى أخرجت جنازته .

وكان سعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد لزما بيوتهما بالعقيق فلم يكونا يأتيان المدينة لجمعة ولا غيرها حتى ماتا بالعقيق .

التالي السابق


(والمأثور عن العلماء من الكلمات ينقسم إلى كلمات مطلقة تدل على الميل إلى أحد الرأيين، وإلى كلمات مقرونة بما يشير إلى علة الميل، فننقل الآن مطلق تلك الكلمات لنبين المذاهب فيها، وما هو مقرون بذكر العلة نورده عند التعرض للغوائل والفوائد، فنقول: قد روي عن عمر) بن الخطاب (-رضي الله عنه- أنه قال: خذوا بحظكم من العزلة) وقال أيضا في وصيته التي تقدم ذكرها في الكتاب الذي قبله: واعتزل عدوك واحذر صديقك من القوم إلا الأمين (وقال) محمد (بن سيرين: العزلة عبادة) وذلك لأنها تدعو إلى السلامة من المحظورات (وقال الفضيل) بن عياض -رحمه الله تعالى- (كفى بالله محبا و) كفى (بالقرآن مؤنسا و) كفى (بالموت واعظا) وهذا قد ورد في المرفوع من حديث عمار: كفى بالموت واعظا وكفى باليقين غنى، رواه الطبراني في الكبير .

(اتخذ الله صاحبا ودع الناس جانبا) وروى ابن عساكر في تاريخه من غريب المسلسل ما لفظه: أنبأنا أبو الفرج غيث بن علي الخطيب، أخبرنا أبو بكر الخطيب، أخبرنا القاضي أبو محمد رامين الإستراباذي، أخبرنا عبد الله بن محمد الحميدي الشيرازي، حدثنا القاضي أحمد بن محمود بن خرزاد الأهوازي، حدثنا علي بن محمد النصري، حدثنا أحمد بن محمد الحلبي قال: سمعت سريا السقطي يقول: سمعت بشرا -يعني ابن الحارث- يقول: قال إبراهيم بن أدهم: وقفت على راهب في جبل لبنان فناديته فأشرف علي فقلت له: عظني، فأنشأ يقول:


خذ عن الناس جانبا كي يعدوك راهبا إن دهرا أظلني
قد أراني العجائبا قلب الناس كيف شئت
تجدهم عقاربا



قال بشر: هذه موعظة الراهب لك فعظني أنت، فأنشأ يقول: [ ص: 331 ]


توحش من الإخوان لا تبغ مؤنسا ولا تتخذ أخا ولا تبغ صاحبا
وكن سامري الفعل من نسل آدم وكن أوحديا ما قدرت مجانبا
فقد فسد الإخوان والحب والإخا فلست ترى إلا مزوقا وكاذبا



قال سري: فقلت لبشر: هذه موعظة إبراهيم لك فعظني أنت، فساق الكلام بتمامه، وفيه: فقال أبو بكر الخطيب: فقلت للقاضي ابن رامين: هذه موعظة الحميدي لك فعظني، فقال: اتق الله وثق به ولا تتهمه فإن اختياره لك خير من اختيارك لنفسك. وأنشأ:


اتخذ الله صاحبا وذر الناس جانبا
جرب الناس كيف شئت تجدهم عقاربا



وقد أمليت المسلسل من حفظي عقيب درس الشمائل في مقام أبي محمد الحنفي قدس سره وهو محفوظ في جملة الأمالي التي أمليتها .

(وقال أبو الربيع الزاهد: قلت لداود) بن نصير (الطائي: عظني، قال: صم عن الدنيا واجعل فطرك الآخرة، وفر من الناس فرارك من الأسد) أخرج أبو نعيم في الحلية قال: حدثنا إبراهيم بن عبيد الله، حدثنا محمد بن إسحاق، حدثنا محمد بن زكريا عن أبي الربيع الأعرج، قال: أتيت داود الطائي، وكان داود لا يخرج من منزله حتى يقول المؤذن: قد قامت الصلاة، فيخرج فيصلي فإذا سلم الإمام أخذ نعله ودخل منزله، فلما طال ذلك علي أدركته يوما فقلت له: على رسلك، فوقف لي، فقلت: أبا سليمان أوصني، قال: اتق الله وإن كان لك والدان فبرهما ثلاث مرات. ثم قال في الرابعة: ويحك صم عن الدنيا واجعل الفطر موتك واجتنب الناس غير تارك لجماعتهم. وقال أيضا: حدثنا إبراهيم بن عبد الله، حدثنا محمد بن إسحاق، وحدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا محمد بن عبد المجيد التميمي، حدثنا عبد الله بن إدريس؛ قال: قلت: لداود الطائي: أوصني، فقال: أقلل من معرفة الناس قلت: زدني قال: ارض باليسير من الدنيا مع سلامة الدين كما رضي أهل الدنيا بالدنيا مع فساد الدين، قلت: زدني قال: اجعل الدنيا كيوم صمته ثم أفطر على الموت.

وأما قوله: فر من الناس فرارك من الأسد. فأخرجه أبو نعيم من طريق عثمان بن زفر، حدثنا سعيد قال: كان داود شديد الانقباض، ولقد جئته يوما في وقت الصلاة فانتظرته حتى خرج فمشيت معه والمسجد منه قريب فسلك بي غير طريقه، فقلت: أين تريد؟ فسلك بي في سكك خالية حتى خرج على المسجد فقلت: الطريق ثم أقرب عليك، فقال: يا سعيد فر من الناس فرارك من السبع، إنه ما خالط أحد إلا نسي العهد.

وأخرج أيضا من طريق حسن بن مالك عن بكر العابد قال: سمعت داود الطائي يقول: توحش من الناس كما تتوحش من السباع.

(وقال الحسن -رضي الله عنه-) هو الحسن بن علي بن أبي طالب (كلمات أحفظهن من التوراة: قنع ابن آدم فاستغنى، اعتزل الناس فسلم) أي: دينه (ترك الشهوات فصار حرا، ترك الحسد فظهرت مروءته، صبر قليلا فتمتع طويلا) فهي خمس كلمات، ولكل منها شاهد في المرفوع من الأخبار (وقال وهيب بن الورد) المكي يقال: اسمه عبد الوهاب ووهيب لقبه وتقدمت ترجمته مرارا (بلغنا أن الحكمة عشرة أجزاء، تسعة منها في الصمت والعاشر في عزلة الناس) أخرجه أبو نعيم في الحلية فقال: حدثنا عثمان بن محمد العثماني، حدثنا أبو نصر بن حمدويه، حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب، حدثنا الحسين بن محمد بن يزيد بن خنيس قال: قال وهيب بن الورد: قال حكيم من الحكماء: العبادة أو قال: الحكمة عشرة أجزاء، تسعة أجزاء في الصمت وواحد في العزلة، فأدومت نفسي من الصمت على شيء فلم أقدر عليه، فصرت إلى العزلة فحصلت لي تسعة .

(وقال يوسف بن مسلم لعلي بن بكار) المصيصي، صدوق مات في حدود الأربعين (ما أصبرك على الوحدة، وقد كان لزم البيت، فقال: كنت وأنا شاب أصبر على أشد من هذا كنت أجالس الناس ولا أكلمهم) وقد جرى لداود الطائي هكذا فإنه جالس في مجلس أبي حنيفة سنة ترد عليه الفتاوى والأسئلة وهو لا يكلمهم، ثم اعتزل الناس وقد علم من ذلك أن مخالطة الناس مع عدم الكلام معهم أشد من الانفراد والوحدة .

(وقال سفيان) بن سعيد (الثوري) -رحمه الله تعالى- (هذا وقت السكوت وملازمة البيوت) وزاد غيره فقال: والقناعة بأقل القوت (وقال بعضهم: كنت في سفينة ومعنا شاب من العلوية) أي: من ولد علي بن أبي طالب [ ص: 333 ] (فمكث معنا سبعا) أي: سبع ليال (لا نسمع له كلاما فقلنا له: يا هذا قد جمعنا الله وإياك منذ سبع) ليال في هذه السفينة (ولا نراك تخالطنا ولا تكلمنا، فأنشأ يقول:

قليل الهم لا ولد يموت ولا أمر يحاذوه يفوت
قضى وطر الصبا وأفاد علما فغايته التفرد والسكوت



وقال إبراهيم) بن يزيد (النخعي) رحمه الله تعالى (لرجل) قد رآه معتزلا عن الناس (تفقه ثم اعتزل) أي: تعلم من أمور دينك ما يلزمك ثم اترك مخالطة الناس (وكذلك قال الربيع بن خثيم) الثوري الكوفي العابد تقدم ذكره مرارا (وقيل: كان) الإمام أبو عبد الله (مالك بن أنس) الأصبحي رضي الله عنه (يشهد الجنائز ويعود المرضى ويعطي الإخوان حقوقهم) اللازمة مما تقدم ذكرها (فترك ذلك واحدا واحدا) بالتدرج كلها واستمر على العزلة نحو اثنتي عشرة سنة وأقام عليه أهل عصره النكير وكثر فيه الكلام (وكان) إذا سئل عن انفراده (يقول لا يتهيأ للمرء أن يخبر بكل عذر) فرب عذر ينبغي عدم إفشائه (وقيل لعمر بن عبد العزيز) الأموي -رحمه الله تعالى- (لو تفرغت لنا قال) هيهات (ذهب الفراغ ولا فراغ إلا عند الله -عز وجل-) والمراد بالفراغ فراغ البال والوقت، وفي الخبر: نعمتان مغبون فيهما أكثر الناس: الصحة والفراغ .

(وقال الفضيل) بن عياض -رحمه الله تعالى- (إني لأجد للرجل عندي يدا) أي: منة (إذا لقيني لا يسلم علي وإذا مرضت أن لا يعودني) أخرجه أبو نعيم في الحلية (وقال أبو سليمان) عبد الرحمن بن أحمد بن عطية (الداراني) -رحمه الله تعالى- (بينما الربيع بن خثيم) الثوري (جالس على باب داره إذ جاءه حجر فصك وجهه فشجه) وأسال دمه (فجعل يمسح الدم ويقول: لقد وعظت يا ربيع) كأن لسان الحجر يقول له: لا تعد تجلس على باب الدار (فقام فدخل داره فما جلس بعد ذلك على باب داره حتى أخرجت جنازته، وكان سعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد) بن عمرو بن نفيل كلاهما من العشرة المبشرة -رضي الله عنهما- (وقد لزما بيوتهما بالعقيق) إلا على قرب المدينة على عشرة أميال منها مما يلي الحرة إلى منتهى البقيع وهو مقابر المسلمين وهناك عقيق آخر أسفل من ذلك ويقال له العقيق الأسفل (فلم يكونا بإتيان المدينة لجمعة ولا غيرها حتى مانا بالعقيق) أما سعد فكان ممن لزم بيته في الفتنة وأمر أهله أن لا يخبروه بشيء من أخبار الناس حتى تجتمع الأمة على إمام، وكان ابنه عمر بن سعد رام أن يدعو لنفسه بعد قتل عثمان فأبى وكذلك رامه ابن أخيه هاشم بن عتبة بن أبي وقاص فلما أبى صار هاشم إلى علي، ومات سعد في قصره بالعقيق وحمل إلى المدينة على رقاب الرجال ودفن بالبقيع، وصلى عليه مروان بن الحكم سنة خمس وخمسين وهو المشهور، وأما سعيد فقال الواقدي: إنه توفي أيضا بالعقيق وحمل على رقاب الرجال فدفن بالبقيع سنة إحدى وخمسين وشهده سعد بن أبي وقاص وابن عمر، قال: ولا اختلاف في ذلك بين أهل العلم قبلنا .

وروى أهل الكوفة أنه مات عندهم بالكوفة في خلافة معاوية وصلى عليه المغيرة بن شعبة وهو يومئذ والي الكوفة.




الخدمات العلمية