الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وعلى الجملة فإذا لم يكن حب السعادة في الآخرة مناقضا لحب الله تعالى فحب السلامة والصحة والكفاية والكرامة في الدنيا كيف يكون مناقضا لحب الله والدنيا والآخرة عبارة عن حالتين إحداهما أقرب من الأخرى ، فكيف يتصور أن يحب الإنسان حظوظ نفسه غدا ، ولا يحبها اليوم ، وإنما يحبها غدا ؛ لأن الغد سيصير حالا راهنة فالحالة الراهنة لا بد إلا أن تكون مطلوبة أيضا إلا أن الحظوظ العاجلة منقسمة إلى ما يضاد حظوظ الآخرة ويمنع منها وهي التي احترز عنها الأنبياء والأولياء وأمروا بالاحتراز عنها ، وإلى ما لا يضاد ، وهي التي لم يمتنعوا منها كالنكاح الصحيح ، وأكل الحلال وغير ذلك فما يضاد حظوظ الآخرة ، فحق العاقل أن يكرهه ولا يحبه أعني أن يكرهه بعقله لا بطبعه كما يكره التناول من طعام لذيذ لملك من الملوك يعلم أنه لو أقدم عليه لقطعت يده أو حزت رقبته لا بمعنى أن الطعام اللذيذ يصير بحيث لا يشتهيه بطبعه ، ولا يستلذه لو أكله ، فإن ذلك محال ، ولكن على معنى أنه يزجره عقله عن الإقدام عليه وتحصل ، فيه كراهة الضرر المتعلق به .

والمقصود من هذا أنه لو أحب أستاذه ؛ لأنه يواسيه ويعلمه أو تلميذه لأنه يتعلم منه ويخدمه وأحدهما حظ عاجل ، والآخر آجل لكان في زمرة المتحابين في الله ولكن بشرط واحد ، وهو أن يكون بحيث لو منعه العلم مثلا أو تعذر عليه تحصيله منه لنقص حبه بسببه ، فالقدر الذي ينقص بسبب فقده هو لله تعالى وله على ذلك القدر ثواب الحب في الله وليس بمستنكر أن يشتد حبك لإنسان لجملة أغراض ترتبط لك به فإن امتنع بعضها نقص حبك وإن زاد زاد الحب فليس حبك الذهب كحبك للفضة إذا تساوى مقدارهما لأن الذهب يوصل إلى أغراض هي أكثر مما توصل إليه الفضة فإذن يزيد الحب بزيادة الغرض ولا ، يستحيل اجتماع الأغراض الدنيوية والأخروية فهو داخل في جملة الحب لله .

وحده هو أن كل حب لولا الإيمان بالله واليوم الآخر لم يتصور وجوده ، فهو حب في الله ، وكذلك كل زيادة في الحب ، لولا الإيمان بالله لم تكن تلك الزيادة فتلك الزيادة من الحب في الله فذلك وإن دق فهو عزيز .

قال الجريري تعامل الناس في القرن الأول بالدين حتى رق الدين وتعاملوا في القرن الثاني بالوفاء حتى ذهب الوفاء وفي الثالث بالمروءة حتى ذهبت المروءة ولم يبق إلا الرهبة والرغبة .

التالي السابق


(وعلى الجملة فإذا لم يكن حب السعادة في الآخرة مناقضا لحب الله) تعالى (فحب السلامة) من آفات الدنيا (والصحة) في البدن (والكفاية) للمهمات (والكرامة في الدنيا كيف يكون مناقضا لحب الله) تعالى، وقد ورد سؤال كل من ذلك في الأخبار (والدنيا) سميت لدنوها للآخرة (والآخرة) سميت لتأخرها عن خلق الدنيا بخمسين ألف سنة مما تعدون كما نقله الشيخ الأكبر قدس سره، وهما (عبارة عن حالين إحداهما أقرب من الأخرى، فكيف يتصور أن يحب الإنسان حظوظ نفسه غدا، ولا يحبها اليوم، وإنما يحبها غدا; لأن غدا يصير حالا راهنة) أي: ثابتة دائمة يقال: رهن الشيء رهونا إذا ثبت ودام، فهو راهن، (فالحالة الراهنة لا بد أن تكون مطلوبة أيضا إلا أن الحظوظ العاجلة) ، وهي الدنيوية (منقسمة إلى ما يضاد حظوظ الآخرة ويمنع منها) أي: من طلبها وارتكابها، (وهو الذي احترز عنه الأنبياء) عليهم السلام، (والأولياء) الكرام (وأمروا بالاحتزاز عنها والتباعد منها، وإلى ما يضاد حظوظ الآخرة، وهي التي لم يمتنعوا منها كالنكاح الصحيح، وأكل الحلال وغير ذلك مما يضاد حظوظ الآخرة، فحق العاقل أن يكرهه ولا يحبه) ، ولا يختاره لنفسه (أعني أن يكرهه بعقله) واختياره (لا بطبعه) فإن الطبع مجبول على ارتكاب بعض أشياء لا يصادقه العقل فيه، (كما يكون التناول من طعام لذيذ) غريب شهي (لملك من الملوك يعلم أنه لو أقدم عليه لقطعت يده أو جزت رقبته) ، أي: فصلت عن رأسه (لا بمعنى أن الطعام اللذيذ يصير بحيث لا يشتهيه بطبعه، ولا يستلذه لو أكله، فإن ذلك محال، ولكن على معنى أنه يزجره عقله عن الإقدام عليه، ويجعل فيه كراهية للضرر المتعلق به) من قطع اليد أو جز الرقبة، (والمقصود من هذا) السياق (أنه لو أحب أستاذه; لأنه يعلمه) أمور الدين (ويواسيه) مع ذلك بماله (أو) أحب (تلميذه لأنه يتعلم منه و) مع ذلك (يخدمه) في مهنة نفسه، (وأحدهما حظ عاجل، والآخر آجل فيكون في زمرة المتحابين في الله) عز وجل، (ولكن بشرط واحد، وهو أن يكون بحيث لو منعه العلم مثلا) ، ولم يفده به (أو تعذر عليه) أي: على التلميذ (تحصيله منه لنقص حبه بسببه، فالقدر الذي ينقص بسبب فقده فهو لله) عز وجل (وله على ذلك القدر ثواب الحب في الله) عز وجل ( وليس بمستنكر أن يشتد حبك لإنسان لجملة أغراض ترتبط لك به ) ما بين دنيوية [ ص: 188 ] وأخروية (فإن امتنع بعضها نقص حبك) بقدر الفقد الحاصل من الامتناع، (وإن زاد زاد الحب) بقدر وجدان الانتفاع، (فليس حبك للذهب كحبك للفضة إذا تساوى مقدارهما) في الثمن; (لأن الذهب يوصل إلى أغراض هي أكثر مما توصل إليه الفضة) مع خفة محمله وعدم تغيره على طول المكث، (فإذا يزيد الحب بزيادة الغرض، فلا يستحيل اجتماع الأغراض الدنيوية والأخروية) معا في شخص واحد (فهو داخل في جملة الحب لله) تعالى (وحده هو أن كل حب لولا الإيمان بالله واليوم الآخر لم يتصور وجوده، فهو حب في الله، وكذلك كل زيادة في الحب، لولا الإيمان بالله تعالى لم تكن تلك الزيادة) ولم توجد، فتلك الزيادة من الحب في الله تعالى، (وذلك وإن دق فهو عزيز) قليل الوجود (قال) أبو محمد أحمد بن الحسن (الجريري) بضم الجيم منسوب إلى جرير ، قبيلة من بكر بن وائل من كبار أصحاب الجنيد ، وصحب سهل بن عبد الله وأقعد بعد الجنيد في مكانه، وكان كبير الحال، مات سنة 311 ترجمه أبو نعيم والقشيري (تعامل الناس في القرن الأول) وهو بعد المائة من الهجرة (بالدين حتى رق الدين) أي: ضعف أمره، (وتعاملوا في القرن الثاني بالوفاء) حتى ذهب الوفاء، (ثم تعاملوا في) القرن (الثالث بالمروءة حتى ذهبت المروءة ولم يبق) بعد ذلك (إلا الرغبة والرهبة) ، ولقد استظرف من قال في ذهاب المروءة:


مررت على المروءة وهي تبكي فقلت لها وما تبكي الفتاة فقالت كيف لا أبكي وأهلي
جميعا دون أهل الناس ماتوا






الخدمات العلمية