الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والورع حسن والمبالغة فيه أحسن ولكن إلى حد معلوم فقد قال صلى الله عليه وسلم : هلك المتنطعون فليحذر من أمثال هذه المبالغات ، فإنها وإن كانت لا تضر صاحبها ربما أوهم عند الغير أن مثل ذلك مهم ثم يعجز عما هو أيسر منه فيترك أصل الورع وهو مستند أكثر الناس في زماننا هذا إذا ضيق عليهم الطريق فأيسوا عن القيام به فاطرحوه فكما أن الموسوس في الطهارة قد يعجز عن الطهارة فيتركها فكذا بعضالموسوسين في الحلال سبق إلى أوهامهم أن مال الدنيا كله حرام فتوسعوا فتركوا التمييز وهو عين الضلال .

وأما مثال اللواحق فهو كل تصرف يفضي في سياقه إلى معصية وأعلاه بيع العنب من الخمار وبيع الغلام من المعروف بالفجور بالغلمان وبيع السيف من قطاع الطريق .

وقد اختلف العلماء في صحة ذلك ، وفي حل الثمن المأخوذ منه .

والأقيس أن ذلك صحيح ، والمأخوذ حلال ، والرجل عاص بعقده كما يعصي بالذبح بالسكين المغصوب ، والذبيحة حلال ولكنه يعصي ، عصيان الإعانة على المعصية إذ لا يتعلق ذلك بعين العقد ، فالمأخوذ من هذا مكروه كراهية شديدة ، وتركه من الورع المهم ، وليس بحرام ويليه في الرتبة بيع العنب ممن يشرب الخمر ولم يكن خمارا وبيع السيف ممن يغزو ويظلم أيضا لأن الاحتمال قد تعارض .

التالي السابق


( والورع حسن والمبالغة فيه أحسن ) حتى يحصل له الاستبراء لدينه، (ولكن إلى حد معلوم) لا يبلغ إلى رتبة الوسواس، (فقد قال صلى الله عليه وسلم: هلك المتنطعون ) فيما رواه أحمد ومسلم وأبو داود من حديث ابن مسعود ، وقد تقدم في كتاب قواعد العقائد، (فليحذر من أمثال هذه المبالغات، فإنها وإن كانت لا تضر صاحبها) في الحال والمآل، لكنه (ربما أوهم عند الغير) ممن يلازمه (أن مثل ذلك يهم) شرعا (ثم يعجز عما هو أيسر منه) ، فلا يقدر على العمل به، (فيترك أصل الورع) الذي ندب إليه الشارع، (وهو مستند أكثر الناس في زماننا هذا) فإنك تراهم (إذا ضيق عليهم الطريق وأيسوا من القيام به أطرحوه) وتركوه، (كما أن الموسوس في) أمر (الطهارة قد يعجز عن الطهارة) ، فكلما صب ماء على عضو أوهم في عقله أنه لم يطهر بعد (فيتركها) [ ص: 58 ] من أصلها، (فكذلك بعض الموسوسين في الحلال ) ، أو في تحصيله (قد يسبق إلى أوهامهم أن مال الدنيا كله حرام) ، ولا يوجد في الدنيا حلال صرف (فيتوسعوا) في التنازل من هنا، ومن هنا (ويتركوا التمييز) بين الحلال والحرام، (وهو عين الضلال) والفساد، (وأما مثال اللواحق فهو كل تصرف) في مال أو غيره (يفضي) أي: يؤدي ويوصل (في سياقه إلى) حصول (معصية) لله تعالى، (وأعلاه بيع العنب) الحاصل من كرمه أو من كرم غيره (من الخمار) هو الذي صنعته اتخاذا لخمر (وبيع الغلام) أي: الأمرد الجميل (من المعروف بالفجور بالغلمان) بالتسامع، (وبيع السيف) وفي معناه سائر آلات الحرب (من قطاع الطريق) ، وهم طوائف العربان المعروفين بالنهب والغارات وقطع طريق المسلمين، (وقد اختلف العلماء في صحة ذلك، وفي حل الثمن المأخوذ منه، والأقيس) بمذهب الشافعي (أن ذلك صحيح، والمأخوذ حلال، والرجل عاص بعقده كما يعصي بالذبح بالسكين المغصوبة، والذبيحة حلال، فإنه يعصي عصيان الإعانة على المعصية) ، فمن أعان على معصية فقد عصى .

(ولا يتعلق ذلك بعين العقد، فالمأخوذ من هذا مكروه كراهية شديدة، وتركه من الورع المهم، وليس بحرام) ، وبه قال أبو حنيفة : وذهب أحمد إلى أنه باطل، وقال مالك : يفسخ البيع ما لم يفت، فإن فات فيتصدق بثمنه، (ويليه في الرتبة بيع العنب ممن يشرب الخمر) ، أي: من عادته ذلك، (ولم يكن خمارا وبيع السيف ممن يغزو ويظلم أيضا) أي: كان معروفا بالجهاد للكفار وبالظلم أيضا; (لأن الاحتمال) هنا (قد تعارض) ، ولا ترجيح لأحدهما .




الخدمات العلمية