الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فإذن على المسلم أن يستر عورة نفسه ، فحق إسلامه واجب عليه كحق إسلام غيره .

قال أبو بكر رضي الله عنه : لو وجدت شاربا لأحببت أن يستره الله ولو وجدت سارقا لأحببت أن يستره الله .

وروى أن ، عمر ( رضي الله عنه كان يعس بالمدينة ذات ليلة فرأى رجلا وامرأة على فاحشة فلما أصبح قال للناس : أرأيتم لو أن إماما رأى رجلا وامرأة على فاحشة فأقام عليهما الحد ما كنتم فاعلين ؟ قالوا : إنما أنت إمام فقال علي رضي الله عنه : ليس ذلك لك ، إذا يقام عليك الحد ، إن الله لم يأمن على هذا الأمر أقل من أربعة شهود ثم تركهم ما شاء الله أن يتركهم ثم سألهم ، فقال القوم مقالتهم الأولى فقال ، علي رضي الله عنه مثل مقالته الأولى .

وهذا يشير إلى أن عمر رضي الله عنه كان مترددا في أن الوالي هل له أن يقضي بعلمه في حدود الله ؛ فلذلك راجعهم في معرض التقدير لا في معرض الإخبار خيفة من أن لا يكون له ذلك فيكون قاذفا بإخباره ، ومال رأي علي إلى أنه ليس له ذلك .

وهذا من أعظم الأدلة على طلب الشرع لستر الفواحش فإن أفحشها الزنا وقد نيط بأربعة من العدول يشاهدون ذلك منه في ذلك منها كالمرود في المكحلة وهذا قط لا يتفق .

وإن علمه القاضي تحقيقا لم يكن له أن يكشف عنه .

. فانظر إلى الحكمة في حسم باب الفاحشة بإيجاب الرجم الذي هو أعظم العقوبات .

ثم انظر إلى كثيف ستر الله كيف أسبله على العصاة من خلقه بتضييق الطريق في كشفه فنرجو أن لا نحرم هذا الكرم يوم تبلى السرائر ففي الحديث : إن الله إذا ستر على عبد عورته في الدنيا فهو أكرم من أن يكشفها في الآخرة وإن كشفها في الدنيا فهو أكرم من أن يكشفها مرة أخرى .

وعن عبد الرحمن ابن عوف رضي الله عنه قال خرجت مع عمر رضي الله عنه ليلة في المدينة فبينما نحن نمشي إذ ظهر لنا سراج فانطلقنا نؤمه فلما دنونا منه إذا باب مغلق على قوم لهم أصوات ولغط فأخذ عمر بيدي وقال : أتدري بيت من هذا ؟ قلت : لا فقال هذا بيت ، ربيعة بن أمية بن خلف وهم الآن شرب فما ترى ؟ قلت : أرى أنا قد أتينا ما نهانا الله عنه ، قال الله تعالى : ولا تجسسوا فرجع عمر رضي الله عنه وتركهم .

التالي السابق


(فإذا على المسلم أن يستر عورة نفسه، فحق إسلامه واجب عليه كحق إسلام غيره، قال أبو بكر -رضي الله عنه-: لو وجدت شاربا) في خمر (لأحببت أن يستره الله ولو وجدت سارقا) في سرقة (لأحببت أن يستره الله، وروي عن عمر) بن الخطاب (-رضي الله عنه- كان يعس بالمدينة ليلا) أي: يدور بها طائفا في طلب الريبة (ذات ليلة) أي: ليلة من الليالي، ولفظه: ذات مقحمة (فرأى رجلا وامرأة على فاحشة) أي: يزنيان (فلما أصبح قال للناس: أرأيتم لو أن إماما رأى رجلا وامرأة) على فاحشة فأقام عليهم الحد الشرعي (ما كنتم فاعلين؟ قالوا: إنما أنت إمام) أي: فافعل ما يظهر لك من إقامة الحد (فقال علي- رضي الله عنه-: ليس ذلك لك، إذا يقام عليك الحد، إن الله) تعالى (لم يأمن على هذا الأمر أقل من أربعة شهداء) أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم قال: يعني الحكام إذا رفع إليهم .. ما دام كان حيا (ثم تركهم ما شاء الله أن يتركهم ثم سألهم، فقال القوم مثل مقالتهم الأولى، وقال علي مثل مقالته) الأولى كذلك (وهذا يشير إلى أن -عمر رضي الله عنه- كان مترددا في أن الوالي هل له أن يقضي بعلمه في حدود الله تعالى؛ فلذلك راجعهم في معرض الفتوى) وفي نسخة التقرير (لا في معرض الإخبار خيفة من أن لا يكون له ذلك فيكون قاذفا) [ ص: 269 ] (بإخباره، ومال رأي علي -رضي الله عنه- أنه ليس له ذلك، وهذا من أعظم الأدلة على طلب الشرع لستره الفواحش) والتحذير على كشفها (فإن أفحشها الزنا) لأنه يتعلق بالعرض (وقد نيط بأربعة من العدول يشاهدون ذلك منه) كناية عن الذكر (في ذلك منها) كناية عن الفرج (كالمرود) أي: الميل (في المكحلة) أو الإبرة في المخيط (وهذا قط لا يتفق) لصعوبته (فإن علمه القاضي تحقيقا لم يكن له أن يكشف عنه .

فانظر) أيها المتأمل (إلى الحكمة) الإلهية (في حسم باب الفاحشة) وسده (بإيجاب الرجم الذي هو أعظم العقوبات) وأكبر الفضائح الدنيوية (ثم انظر إلى كنيف) وفي نسخة: كنف (ستر الله تعالى كيف أسبله على العصاة من خلقه بتضييق الطريق في كشفه فنرجو ألا نحرم هذا الكرم) الإلهي (يوم تبلى السرائر) أي: تمتحن البواطن (ففي الحديث) عن النبي -صلى الله عليه وسلم- (قال: إن الله تعالى إذا ستر على عبده عورة في الدنيا فهو أكرم من أن يكشفها) عليه (في الآخرة فإن كشفها في الدنيا فهو أكرم من أن يكشفها مرة أخرى) .

قال العراقي: رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم من حديث علي: "من أذنب ذنبا في الدنيا فستره الله عليه وعفا عنه فالله أكرم من أن يرجع في شيء قد عفا عنه، ومن أذنب ذنبا فعوقب عليه فالله أعدل من أن يثني عقوبته على عبده" لفظ الحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولمسلم من حديث أبي هريرة "لا يستر الله على عبد في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة" قلت: ورواه أحمد وابن جرير وصححه من حديث علي بلفظ: "من أذنب في الدنيا ذنبا فعوقب عليه فالله أعدل أن يثني عقوبته على عبده، ومن أذنب ذنبا في الدنيا فستر الله عليه وعفا عنه، فالله أكرم من أن يعود في شيء قد عفا عنه".

(و) أخرج عبد بن حميد وعبد الرزاق والخرائطي في مكارم الأخلاق من طريق زرارة بن مصعب بن عبد الرحمن بن عوف عن المسور بن مخرمة (عن عبد الرحمن بن عوف قال: حرست مع عمر -رضي الله عنه- ليلة بالمدينة فبينما نحن نمشي إذ) شب أي: (ظهر لنا سراج) في بيت (فانطلقنا نؤمه) أي: نقصده (فلما دنونا منه إذا باب) مجاف؛ أي: (مغلق على قوم لهم) فيه (أصوات) مرتفعة (ولغط) محركة: اختلاط الأصوات (فأخذ عمر -رضي الله عنه- بيدي وقال: أتدري بيت من هذا؟ قلت: لا، قال) هذا بيت (ربيعة بن أمية بن خلف وهم الآن شرب) بفتح فسكون للجماعة يشربون الخمر (فما ترى؟ قلت: أرى أنا أتينا ما نهى الله عنه، قال الله تعالى: ولا تجسسوا فرجع عمر -رضي الله عنه- وتركهم) على حالهم .

ونحو ذلك ما أخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر عن الشعبي أن عمر بن الخطاب فقد رجلا من أصحابه فقال لابن عوف: انطلق بنا إلى منزل فلان ننظره، فأتيا منزله فوجدا بابا مفتوحا وهو جالس وامرأته تصب له في إناء فتناوله إياه، فقال عمر لابن عوف: هذا الذي شغله عنا، فقال ابن عوف لعمر: وما يدريك ما في الإناء؟ فقال عمر: أتخاف أن يكون هذا التجسس؟ قال: بل هو التجسس، قال: وما التوبة من هذا؟ قال: لا تعلمه بما اطلعت عليه من أمره ولا يكونن من نفسك إلا خيرا، ثم انصرفا.

وأخرجا أيضا عن الحسن قال: أتى عمر بن الخطاب رجلا فقال: إن فلانا لا يصحو، فدخل عليه عمر فقال: إني لأجد ريح شراب يا فلان أتيت بهذا؟ فقال الرجل: يا ابن الخطاب وأنت بهذا، ألم ينهك الله عن أن تتجسس؟ فعرفها عمر فانطلق وتركه.




الخدمات العلمية