الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقال مجاهد أول ما يكلم ابن آدم حفرته فتقول : أنا بيت الدود وبيت الوحدة وبيت الغربة وبيت الظلمة .

فهذا ما أعددت لك فما أعددت لي ؟ وقال أبو ذر ألا أخبركم بيوم فقري يوم أوضع في قبري .

كان ، أبو الدرداء يقعد إلى القبور فقيل له في ذلك ، فقال : أجلس إلى قوم يذكرونني معادي وإن قمت عنهم لم يغتابوني .

وقال حاتم الأصم من مر بالمقابر فلم يتفكر لنفسه ولم يدع لهم فقد خان نفسه وخانهم .

وقال صلى الله عليه وسلم : ما من ليلة إلا وينادي مناد : يا أهل القبور ، من تغبطون ؟ قالوا : نغبط أهل المساجد ؛ لأنهم يصومون ولا نصوم ويصلون ولا نصلي ويذكرون الله ولا نذكره .

وقال سفيان من أكثر ذكر القبر وجده روضة من رياض الجنة ومن غفل عن ذكره وجده حفرة من حفر النار .

وكان الربيع بن خثيم قد حفر في داره قبرا فكان إذا وجد في قلبه قساوة دخل فيه فاضطجع فيه ومكث ساعة ثم قال : رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت ، ثم يقول : يا ربيع ، قد أرجعت فاعمل الآن قبل أن لا ترجع .

وقال ميمون بن مهران خرجت مع عمر بن عبد العزيز إلى المقبرة فلما نظر إلى القبور بكى وقال : يا ميمون هذه قبور آبائي بني أمية كأنهم لم يشاركوا أهل الدنيا في لذاتهم أما تراهم صرعى قد خلت بهم المثلات وأصاب الهوام من أبدانهم ثم بكى وقال والله ما أعلم أحدا أنعم ممن صار إلى هذه القبور وقد أمن من عذاب الله .

التالي السابق


(أول ما يكلم ابن آدم حفرته) أي: قبره (فيقول: أنا بيت الدود بيت الوحدة وبيت الغربة وبيت الظلمة، فهذا ما أعددت لك فما أعددت لي؟) ولهذا كان يزيد الرقاشي إذا مر بقبر صرخ صراخ الثكلى، وفي العاقبة لعبد الحق عن أبي الحجاج مرفوعا، يقول القبر للميت إذا وضع فيه: ويحك ابن آدم ما غرك بي؟! ألم تعلم أني بيت الفتنة وبيت الظلمة وبيت الدود؟ قلت: أبو الحجاج هذا هو عبد بن عبد الثمالي، له صحبة وحديثه هذا قد رواه الحكيم وأبو يعلى والطبراني وأبو نعيم في الحلية، وبقيته بعد قوله: "الدود" ما غرك بي إذا كنت تمشي .. فردا، فإن كان مصلحا أجاب عنه مجيب القبر فيقول: أرأيت إن كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟ فيقول: إني إذا أعود عليه خضرا ويعود جسده علي نورا، وتصعد روحه إلى رب العالمين. وقال ابن السماك: إن الميت إذا عذب في قبره نادته الموتى: أيها المخلف بعد إخوانه وجيرانه، أما كان لك فينا معتبر؟ أما كان لك في تقدمنا إياك فكرة؟ أما رأيت انقطاع آمالنا وأنت في مهلة آمالك؟

(وقال أبو ذر) الغفاري -رضي الله عنه- (ألا أخبركم بيوم فقري يوم أوضع في قبري، وكان أبو الدرداء) -رضي الله عنه- (يقعد إلى القبور) أي: عندها ويلازمها كثيرا (فقيل له في ذلك، فقال: أجلس إلى قوم يذكروني معادي) أي: آخرتي (وإن قمت) عنهم (لم يغتابوني، وقال حاتم) بن علوان الأصم قدس سره: (من مر بالمقابر فلم يتفكر لنفسه) أي: لم يتعظ (ولم يدع لهم) بالمغفرة (فقد خان نفسه) بترك الاعتبار (وخانهم) بترك الاستغفار .

(وقال -صلى الله عليه وسلم-: ما من ليلة إلا وينادي مناد: يا أهل القبور، من تغبطون؟ قالوا: نغبط أهل المساجد؛ لأنهم يصومون ولا نصوم ويصلون ولا نصلي ويذكرون الله ولا نذكر) .

قال العراقي: لم أجد له أصلا، (قال سفيان) بن سعيد الثوري -رحمه الله- (من أكثر ذكر القبر) أي: وحدته وظلمته وضيقه (وجده روضة من رياض الجنة) ؛ لأن الإكثار من ذكره علامة الاتعاظ والاعتبار، وذا مما يبعثه على تحسين الاعتبار وتقصير الآمال، فإذا دخله وجده فسيحا، (ومن غفل عن ذكره ) ولم يتعظ بأهواله (وجده حفرة من حفر النار) ، وبهذا يعلم أن فظاعة القبر إنما هي بالنسبة للعصاة والمخلطين لا للسعداء، وقد روى الترمذي والطبراني معا من حديث أبي سعيد والطبراني فقط في الأوسط من حديث أبي هريرة وابن أبي الدنيا والبيهقي في الشعب من حديث ابن عمر: "القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار"، ولفظ البيهقي: "القبر حفرة من حفر جهنم أو روضة من رياض الجنة".

وأخرج أحمد في الزهد وابن المبارك في كتاب القبور عن وهب: كان عيسى -عليه السلام- واقفا على قبر ومعه الحواريون فذكر القبر ووحشته وظلمته وضيقه قال عيسى -عليه السلام-: كنتم في أضيق منه في أرحام أمهاتكم، فإذا أحب الله أن يوسع وسع. (وكان) أبو يزيد (الربيع بن خيثم) بن عائذ الثوري الكوفي التابعي تقدمت ترجمته في كتاب تلاوة القرآن (قد حفر في داره قبرا فكان إذا وجد في قلبه قساوة دخله فاضطجع فيه ومكث ساعة ثم قال: رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت، ثم يقول: يا ربيع، قد رجعت فاعمل [ ص: 302 ] قبل أن لا ترجع، وقال ميمون بن مهران) الجزري أبو أيوب الرقي قال العجلي تابعي ثقة وثقه أبو زرعة والنسائي، وقال ابن سعد كان ثقة قليل الحديث، وذكره ابن حبان في كتاب الثقات وكان عمر بن عبد العزيز قد ولاه على خراج الجزيرة وقضائها، ولد سنة أربعين ومات سنة ثماني عشرة، روى له الجماعة إلا البخاري، وقد تقدم ذكره قريبا، وإن البخاري روى له في الأدب المفرد، وقال أبو نعيم في الحلية: حدثنا محمد بن أحمد بن أبان، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا أبو بكر بن سفيان، قال: حدثني محمد بن الحسين، حدثني أبو منصور الواسطي، حدثنا المغيرة بن مطرف الرؤاسي قال: حدثنا خالد بن صفوان عن ميمون بن مهران قال: (خرجت مع عمر بن عبد العزيز) الأموي -رضي الله عنه- (إلى المقبرة) أي: في دمشق (فلما نظر إلى القبور بكى) ثم أقبل إلي (وقال: يا ميمون) ولفظ الحلية "فقال: يا أبا أيوب" (هذه قبور آبائي بني أمية كأنهم لم يشاركوا أهل الدنيا في لذاتهم) وعيشهم (أما تراهم صرعى قد خلت بهم المثلات) واستحكم فيهم البلى (وأصابت الهوام) أي: الديدان (من أبدانهم) ولفظ الحلية "في أبدانهم مقيلا" قال: (ثم بكى) حتى غشي عليه ثم أفاق (وقال) وانطلق (فوالله ما أعلم أحدا أنعم ممن صار إلى هذه القبور وقد أمن من عذاب الله) ولفظ الحلية "وقد أمن عذاب الله عز وجل" .




الخدمات العلمية