الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
واعلم أنه ليس من الوفاء موافقة الأخ فيما يخالف الحق في أمر يتعلق بالدين بل الوفاء له المخالفة فقد كان الشافعي رضي الله عنه آخى محمد بن عبد الحكم وكان يقربه ويقبل عليه ويقول : ما يقيمني بمصر غيره ، فاعتل محمد فعاده الشافعي رحمه الله تعالى فقال .

:

مرض الحبيب فعدته فمرضت من حذري عليه     وأتى الحبيب يعودني
فبرئت من نظري إليه



وظن الناس لصدق مودتهما أنه يفوض أمر حلقته إليه بعد وفاته فقيل للشافعي في علته التي مات فيها رضي الله تعالى عنه إلى من نجلس بعدك يا أبا عبد الله فاستشرف له محمد بن عبد الحكم وهو عند رأسه ليومئ إليه فقال الشافعي : سبحان الله ! أيشك في هذا ؟ أبو يعقوب البويطي فانكسر لها محمد ومال أصحابه إلى البويطي مع أن محمدا كان قد حمل عنه مذهبه كله لكن كان البويطي أفضل وأقرب إلى الزهد والورع .

فنصح الشافعي لله وللمسلمين وترك المداهنة ولم يؤثر رضا الخلق على رضا الله تعالى فلما توفي انقلب محمد بن عبد الحكم عن مذهبه ورجع إلى مذهب أبيه ودرس كتب مالك رحمه الله وهو من كبار أصحاب مالك رحمه الله .

وآثر البويطي الزهد والخمول ولم يعجبه الجمع والجلوس في الحلقة واشتغل بالعبادة وصنف كتاب الأم الذي ينسب الآن إلى الربيع بن سليمان ويعرف به وإنما صنفه البويطي ولكن لم يذكر نفسه فيه ولم ينسبه إلى نفسه فزاد الربيع فيه وتصرف وأظهره .

التالي السابق


(واعلم أنه ليس من الوفاء موافقته فيما يخالف الحق) الصريح (في أمر يتعلق بالدين بل من الوفاء له المخالفة) فيه (فقد كان الشافعي) -رضي الله عنه- (آخى) أبا عبد الله (محمد بن) عبد الله بن (عبد الحكم) ابن أيمن بن ليث المصري من موالي آل عثمان، فقد تقدمت ترجمته وترجمة أبيه في كتاب العلم، وأبوه من كبار أصحاب مالك (وكان يقربه ويقبل عليه) وكان محمد قد لزم الشافعي لأن أباه أوصاه بذلك فأخذ عنه علما كثيرا وتفقه به وتمذهب بمذهبه، وقد روى عنه النسائي وأبو حاتم وابن خزيمة وابن صاعد وجماعة، قال النسائي: ثقة، وقال مرة: صدوق لا بأس به، وقال ابن يونس: كان مفتي مصر في أيامه، مات سنة 268 (و) لكثرة بره وإحسانه إلى الشافعي كان (يقول: ما يقيمني بمصر غيره، فاعتل محمد) مرة حتى أشرف على الهلاك (فعاده الشافعي) -رحمه الله تعالى- (وقال:


مرض الحبيب فعدته فمرضت من حزني عليه )

فقال محمد في جوابه:

(فأتى الحبيب يعودني فبرئت من نظري إليه)



(وظن الناس لصدق مودتهما) وأخوتهما (أنه) أي: الشافعي (يفوض أمر حلقته) بسكون اللام (بعد وفاته إليه) أي: في جامع عمرو بن العاص (فقيل للشافعي) - رحمه الله تعالى- (في علته التي مات فيها) في سنة أربع: ( إلى من نجلس بعدك يا أبا عبد الله) ، وهي كنية الشافعي؟ ( فاستشرف له محمد بن عبد الحكم وتطاول وهو عند رأسه ليومئ إليه) أي: يشير، (فقال الشافعي -رحمه الله تعالى-: سبحان الله! أيشك فيها؟) ولفظ القوت: في هذا (أبو يعقوب البويطي) يوسف بن يحيى القرشي مولاهم المصري الفقيه، وبويط كزبير قرية بالصعيد الأوسط، وهو أكبر أصحاب الشافعي، وقد اختص بصحبته واشتهر بها، وحدث عنه وعن عبد الله بن وهب وغيرهما، وعنه الربيع المرادي وإبراهيم الحربي ومحمد بن إسماعيل الترمذي، وأبو حاتم وآخرون وله المختصر المشهور الذي اختصره من كلام الشافعي، وقد قرأه على الشافعي بحضرة الربيع، وكان الشافعي -رحمه الله تعالى- يعتمد البويطي في الفتيا ويحيل عليه إذا جاءته مسألة، حمل مقيدا في الحديد من مصر إلى بغداد في فتنة خلق القرآن وحبس حتى مات سنة 231 (فانكسر لها محمد) بن عبد الحكم ووجد في نفسه (ومآل أصحابه إلى البويطي) فتخرج على يديه أئمة تفرقوا في البلاد ونشروا علم الشافعي في الآفاق (مع أن محمدا كان قد حمل عنه مذهبه) وعلمه (كله) مع معرفته لمذهب مالك (لكن كان البويطي أفضل وأقرب إلى الزهد والورع) وكان سريع الدمعة غالب أوقاته الذكر، ودرس العلم، وغالب ليله التهجد والتلاوة، وقال الربيع: كان البويطي أبدا يحرك شفتيه بذكر الله -عز وجل- وما أبصرت أحدا أسرع لهجة في كتاب الله من البويطي.

(فنصح الشافعي) رحمه الله تعالى (لله) -عز وجل- (وللمسلمين وترك المداهنة) أي: حمله على نصحه للدين والنصيحة للمسلمين ولم يداهن في ذلك (ولم يؤثر رضا الخلق عن رضا الله تعالى) بأن وجه الأمر إلى البويطي وآثره لأنه كان أولى (فلما توفي) الشافعي (انقلب محمد بن عبد الحكم من مذهبه ورجع إلى مذهب أبيه ودرس كتب مالك) -رضي الله عنه- (وهو من كبار أصحاب مالك) ولفظ القوت: وروى كتب أبيه عن مالك وتفقه فيها فهو اليوم من كبار أصحاب مالك، وقرأت في طبقات القطب الخضيري ما لفظه: وروى الحاكم عن إمام الأئمة ابن خزيمة قال: كان ابن عبد الحكم أعلم من رأيت بمذهب مالك، فوقعت بينه وبين البويطي وحشة عند موت الشافعي، فحدثني أبو صنبر السكري، قال: تنازع ابن عبد الحكم والبويطي مجلس الشافعي، فقال [ ص: 239 ] البويطي: أنا أحق به منك، وقال الآخر كذلك، فجاء الحميد وكان تلك الأيام بمصر، فقال: قال الشافعي: ليس أحد أحق بمجلسي من البويطي وليس أحد من أصحابي أعلم منه، فقال له ابن عبد الحكم: كذبت، فقال له: كذبت أنت وأبوك وأمك! وغضب ابن عبد الحكم وجلس البويطي في مجلس الشافعي وجلس ابن عبد الحكم في الطاق الثالث .

(وآثر البويطي الزهد والخمول) وترك العلائق (ولم يعجبه الجمع والجلوس في الحلقة واشتغل بالعبادة) ليلا ونهارا (وصنف كتاب الأم الذي ينسب الآن إلى الربيع بن سليمان) المرادي ويعرف به (وإنما صنفه البويطي ولكن لم يذكر نفسه فيه ولم ينسبه إلى نفسه) هضما لها (فزاد الربيع فيه وتصرف وأظهره للناس) فهذا هو الأم المشهور، وتلقته الأمة بالقبول، والمسند المنسوب إلى الشافعي هو عبارة عن الأحاديث التي وقعت في مسموع الأصم على الربيع من كتاب الأم والمبسوط التقطها بعض النيسابوريين وهو أبو عمر ومحمد بن جعفر بن مطر من الأبواب فسمي ذلك سند الشافعي، قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- .




الخدمات العلمية