الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومن يسافر ليستقرئ هذه الشهادات من الأسطر المكتوبة بالخطوط الإلهية على صفحات الجمادات لم يطل سفره بالبدن بل يستقر في موضع ويفرغ قلبه للتمتع بسماع نغمات التسبيحات من آحاد الذرات فماله وللتردد في الفلوات وله غنية في ملكوت السماوات ، فالشمس والقمر والنجوم بأمره مسخرات .

وهي إلى أبصار ذوي البصائر مسافرات في الشهر والسنة مرات بل هي دائبة في الحركة على توالي الأوقات .

فمن الغرائب أن يدأب في الطواف بآحاد المساجد من أمرت الكعبة أن تطوف به ومن الغرائب أن يطوف في أكناف الأرض من يطوف به أقطار السماء .

ثم ما دام المسافر مفتقرا إلى أن يبصر عالم الملك والشهادة بالبصر الظاهر فهو بعد في المنزل الأول من منازل السائرين إلى الله والمسافرين إلى حضرته وكأنه ، معتكف على باب الوطن لم يفض به المسير إلى متسع الفضاء ولا سبب لطول المقام في هذا المنزل إلا الجبن والقصور .

ولذلك قال بعض أرباب القلوب إن الناس ليقولون : افتحوا أعينكم حتى تبصروا وأنا أقول غمضوا أعينكم حتى تبصروا وكل واحد من القولين حق إلا أن الأول خبر عن المنزل الأول القريب من الوطن والثاني خبر عما بعده من المنازل البعيدة عن الوطن التي لا يطؤها إلا مخاطر بنفسه والمجاوز إليها ربما يتيه فيها سنين وربما يأخذ التوفيق بيده فيرشده إلى سواء السبيل والهالكون في التيه هم الأكثرون من ركاب هذه الطريق ولكن السائحون بنور التوفيق فازوا بالنعيم والملك المقيم وهم الذين سبقت لهم من الله الحسنى واعتبر هذا الملك بملك الدنيا فإنه يقل بالإضافة إلى كثرة الخلق طلابه ومهما عظم المطلوب قل المساعد .

ثم الذي يهلك أكثر من الذي يملك .

ولا يتصدى لطلب الملك العاجز الجبان لعظيم الخطر وطول التعب .


وإذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجسام

وما أودع الله العز والملك في الدين والدنيا إلا في حيز الخطر .

وقد يسمى الجبان الجبن والقصور باسم الحزم والحذر كما قيل .

يرى

الجبناء أن الجبن حزم     وتلك خديعة الطبع اللئيم

فهذا حكم السفر الظاهر إذا أريد به السفر الباطن بمطالعة آيات الله في الأرض .

التالي السابق


(ومن يسافر ليستقري هذه الشهادات) الناطقة (من الأسطر المكتوبة بالخطوط الإلهية على صفحات الجمادات لم يظل سفره بالبدن بل يستقر في موضع ويفرغ قلبه للتمتع بسماع نغمات التسبيحات من) ألسنة (آحاد الذرات فما له وللتردد في الفلوات) من عالم الملك (وله غنيمة في ملكوت السماوات، فالشمس والقمر والنجوم مسخرات) ولأمره طائعات (وإلى أبصار ذوي البصائر) القديسة (مسافرات في الشهر والسنة مرات) كرات، (بل هي دائبة في الحركة على توالي الأوقات) يدل على ذلك قوله: الشمس والقمر دائبين .

(فمن الغرائب أن يدأب بالطواف بأحد المساجد) والمشاهد (من أمرت الكعبة أن تطوف به) وقد وقع طواف الكعبة لرجال من الصديقين والأولياء، (فمن الغرائب أن يطوف في أكناف الأرض) أي: جوانبها (من تطوف به أقطار السماء) فمن تأمل هذا رجع إلى نفسه وانتبه من رقدة غفلته (ثم ما دام المسافر مفتقرا إلى أن يبصر عالم الملك والشهادة بالبصر الظاهر فهو مبعد في المنزل الأول من منازل السائرين إلى الله والمسافرين إلى حضرته، ولأنه معتكف على باب الوطن لم يفض به المسير إلى متسع الفضاء) ، وهذا المقام الذي هو فيه ليس معدودا من الأسفار الأربعة المعروفة عند أهل الحق وإنما هو مبدأ آثار تجمل تهيأ منه للوصول إلى السفر الذي هو رفع حجب الكثرة عن وجه الوحدة وهو السير إلى الله من منازل النفس بإزالة التعشق من الظاهر والأغيار إلى أن يصل إلى الأفق المبين .

(ولا سبب للطول في هذا المنزل إلا الجبن) والخوف (والقصور ولذلك قال بعض أرباب القلوب) من العارفين (إن الناس ليقولون: افتحوا أعينكم حتى تبصروا) مطلوبكم (وأنا أقول غمضوا أعينكم حتى تبصروا وفي) الظاهر أن بين الكلامين مخالفة وليس كذلك بل (كل واحد من القولين حق) ولكل منهما وجه وجيه (إلا أن الأول خبر عن المنزل القريب من الوطن) إذ فيه الافتقار إلى فتح البصر لرؤية المظاهر والأغيار ليعتبر بها إلى ما وراء ذلك (والثاني خبر عما بعده من المنازل البعيدة من الوطن التي لا يطؤها إلا مخاطرا بنفسه) أي: من رمى نفسه في خطر عظيم، (والمجاوز إليها ربما يتيه فيها سنين) لما فيها من المخاوف والمهالك التي منها الترقي إلى حضرة الوحدانية ثم إلى عين الجمع والحضرة الأحدية ثم إلى أحدية الجمع والفرق، (وربما يأخذ التوفيق) الإلهي (بيده فيرشده) في لحظة (إلى سواء السبيل) وذلك بفضله وكرمه (والهالكون [ ص: 388 ] في التيه هم الأكثرون من ركاب هذا الطريق) كما يومئ إليه كلام سهل التستري (والعالمون كلهم هلكى) إلا المخلصون والمخلصون على خطر، (ولكن السائحون بنور التوفيق فازوا بالنعيم) الأبدي (والملك المقيم) السرمدي (وهم الذين سبقت لهم من الله الحسنى) ومن ساعدته العناية لا يقاس بغيره (واعتبر هذا الملك) الأخروي (بملك الدنيا) فإنه يقل بالإضافة إلى كثرة الخلق طلابه .

(ومهما عظم المطلوب قل المساعد) وعز المعين (ثم الذي يهلك أكثر من الذي يملك) كما هو مشاهد، (ولا يتصدى لطلب الملك العاجز الجبان لعظم الخطر وكثرة التعب) فيتحامى عنه ولا يحمل أثقال الملوك إلا الجمال ولقد صدق القائل:


(وإذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجسام)



(وما أودع الله العز) والأبهة (والملك في الدين والدنيا إلا في حيز الخطر) وهو الإشراف على الهلاك وخوف التلف، وفي نسخة: إلا في متن الخطر، (وقد يسمي الجبان الجبن) أي: الإحجام عن الإقدام (والقصور) عن درك المعالي (باسم الحزم والحذر) قال الشاعر:


(يرى الجبناء أن الجبن حزم وتلك خديعة الطبع اللئيم)



والجبناء: جمع الجبان المذكر وجمع المؤنث جبنات .

(فهذا حكم السفر الظاهر إذا أريد به السفر الباطن بمطالعة آيات الأرض) الدالة على كمال قدرته .




الخدمات العلمية