الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
واحتجوا بقول عثمان رضي الله عنه ما تغنيت ولا تمنيت ولا مسست ذكري بيميني مذ بايعت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم .

قلنا فليكن التمني ومس الذكر باليمنى حراما إن كان هذا دليل تحريم الغناء فمن أين يثبت أن عثمان رضي الله عنه كان لا يترك إلا الحرام .

واحتجوا بقول ابن مسعود رضي الله عنه : الغناء ينبت في القلب النفاق وزاد بعضهم : كما ينبت الماء البقل ورفعه بعضهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غير صحيح .

قالوا ومر على ابن عمر رضي الله عنهما قوم محرمون وفيهم رجل يتغنى ، فقال : ألا لا أسمع الله لكم ألا لا أسمع الله لكم .

وعن نافع أنه قال : كنت مع ابن عمر رضي الله عنهما في طريق فسمع زمارة راع فوضع أصبعيه في أذنيه ثم عدل عن الطريق فلم يزل يقول : يا نافع أتسمع ذلك حتى قلت : لا فأخرج أصبعيه وقال هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع وقال الفضيل بن عياض رحمه الله الغناء رقية الزنا .

وقال بعضهم : الغناء رائد من رواد الفجور .

وقال يزيد بن الوليد إياكم والغناء فإنه ينقص الحياء ويزيد الشهوة ويهدم المروءة وإنه لينوب عن الخمر ويفعل ما يفعله السكر ، فإن كنتم لا بد فاعلين فجنبوه النساء فإن الغناء داعية الزنا .

فنقول قول ابن مسعود رضي الله عنه ينبت النفاق أراد به في حق المغني فإنه في حقه ينبت النفاق إذ غرضه كله أن يعرض نفسه على غيره ويروج صوته عليه ولا يزال ينافق ويتودد إلى الناس ليرغبوا في غنائه وذلك أيضا لا يوجب تحريما .

فإن لبس الثياب الجميلة وركوب الخيل المهملجة وسائر أنواع الزينة والتفاخر بالحرث والأنعام والزرع وغير ذلك ينبت في القلب النفاق والرياء ولا يطلق القول بتحريم ذلك كله .

فليس السبب في ظهور النفاق في القلب المعاصي فقط بل المباحات التي هي مواقع نظر الخلق أكثر تأثيرا .

ولذلك نزل عمر رضي الله عنه عن فرس هملج تحته وقطع ذنبه ; لأنه استشعر في نفسه الخيلاء لحسن مطيته .

فهذا النفاق من المباحات .

وأما قول ابن عمر رضي الله عنهما ألا لا أسمع الله لكم .

فلا يدل على التحريم من حيث إنه غناء بل كانوا محرمين ولا يليق بهم الرفث وظهر له من مخايلهم أن سماعهم لم يكن لوجد وشوق إلى زيارة بيت الله تعالى بل لمجرد اللهو فأنكر ذلك عليهم لكونه منكرا بالإضافة إلى حالهم وحال الإحرام .

وحكايات الأحوال تكثر فيها وجوه الاحتمال .

وأما وضعه أصبعيه في أذنيه فيعارضه أنه لم يأمر نافعا بذلك ولا أنكر عليه سماعه وإنما فعل ذلك هو ; لأنه رأى أن ينزه سمعه في الحال وقلبه عن صوت ربما يحرك اللهو ويمنعه عن فكر كان فيه أو ذكر هو أولى منه .

وكذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أنه لم يمنع ابن عمر لا يدل أيضا على التحريم بل يدل على أن الأولى تركه .

ونحن نرى أن الأولى تركه في أكثر الأحوال بل أكثر مباحات الدنيا الأولى تركها إذا علم أن ذلك يؤثر في القلب .

فقد خلع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ من الصلاة ثوب أبي جهم إذ كانت عليه أعلام شغلت قلبه .

أفترى أن ذلك يدل على تحريم الأعلام على الثوب فلعله صلى الله عليه وسلم كان في حالة كان صوت زمارة الراعي يشغله عن تلك الحالة كما شغله العلم عن الصلاة .

بل الحاجة إلى استثارة الأحوال الشريفة من القلب بحيلة السماع قصور بالإضافة إلى من هو دائم الشهود للحق ، وإن كان كمالا بالإضافة إلى غيره .

ولذلك قال الحصري ماذا أعمل بسماع ينقطع إذا مات من يسمع منه؛ إشارة إلى أن السماع من الله تعالى هو الدائم .

فالأنبياء عليهم السلام على الدوام في لذة السمع والشهود فلا يحتاجون إلى التحريك بالحيلة .

وأما قول الفضيل : هو رقية الزنا .

وكذلك ، ما عداه من الأقاويل القريبة منه .

فهو منزل على سماع الفساق والمغتلمين من الشبان .

ولو كان ذلك عاما لما سمع من الجاريتين في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم .

التالي السابق


ثم شرع المصنف -رحمه الله تعالى- بذكر آثار الصحابة ومن بعدهم مما احتج بها المحرمون فقال: (واحتجوا بقول عثمان) ابن عفان (رضي الله عنه) وقال: (ما تغنيت ولا تمنيت ولا مسست ذكري بيميني منذ بايعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) أخرجه ابن ماجه في سننه، (فنقول) أبعد الاحتمالات إرادته التحري كيف وكان يسمع الغناء وكانت له جاريتان تغنيان له، وإلا (فليكن التمني ومس الذكر باليمين حراما إن كان هذا دليل تحريم الغناء) ، وليس كذلك، (فمن أين ثبت أن عثمان) -رضي الله عنه- (كان لا يترك إلا الحرام) ، وإنما تنزه عن ذلك كما تنزه عن غيره من المباحات، وكثير من الصحابة -رضي الله عنهم- تورعوا وزهدوا في كثير من المباحات .

(واحتجوا) أيضا (بقول) عبد الله (بن مسعود -رضي الله عنه-: الغناء ينبت في القلب النفاق) أي: هو سبب له ومنبعه وأسه وأصله، (وزاد بعضهم: كما ينبت الماء البقل) وهذا التشبيه تمثيلي لأنه متنوع من عدة أمور متوهمة (ورفعه بعضهم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو غير صحيح) لأن في إسناده من لم يسم، رواه أبو داود وهو في رواية ابن العبد ليس في رواية اللؤلؤي، ورواه البيهقي مرفوعا موقوفا قاله العراقي.

قلت: روي مرفوعا من عدة طرق كلها ضعيفة قال البيهقي: والصحيح أنه من قول ابن مسعود، وفي بعض طرقه من هو مجهول، وفي بعضها ليث بن أبي سليم، وقد نقل النووي في تهذيب الأسماء واللغات الاتفاق على ضعفه وأقره الزركشي وقال ابن طاهر: رواه الثقات عن شعبة عن مغيرة عن إبراهيم ولم يجاوز فهو من قول إبراهيم. اهـ .

قلت: رواه ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي عن إبراهيم قال: كانوا يقولون. إلخ. فإذا ليس هو من قول إبراهيم، وممن رواه مرفوعا ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي، ورواه ابن عدي والديلمي من حديث أبي هريرة وأخرجه البيهقي من حديث جابر بلفظ: الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع. وهو ضعيف أيضا فيه علي بن حماد، قال الدارقطني: متروك، وابن أبي رواد قال أبو حاتم: أحاديثه منكرة، وقال ابن الجنيد: لا يساوي فلسا، وإبراهيم بن طهمان مختلف فيه .

وقال بعضهم: المراد بالغناء هنا غنى المال وهو الذي يناسب إنبات النفاق، فإن كثرة المال تطغي وتكسب أمورا ردية من عدم الفكرة في الآخرة، ورد عليه الغافقي ردا شنيعا من حيث إن الغنى من المال مقصور. ولفظ الحافظ ابن حجر، وزعم أن المراد بالغناء هنا غنى المال ردا عليه بأن الرواية إنما هي بالمد وغنى المال مقصور. اهـ. وحاول صاحب الإمتاع تصحيح معنى القصر، فقال: وهذا الذي قاله -يعني الغافقي- إنما يتجه إن كان العلماء كلهم رووه بالمد وإن كان كذلك لم يبق لرده قوة، ثم لو سلم أنهم رووه بالمد فتحرير الأداة من المد والحركات لا يتحرر، ولذلك لم يحتج أهل العربية بالرواية بالمعنى، وخطؤوا من احتج بها ممن تأخر لعدم الوثوق بتحرير اللفظ، ولذلك وقع فيها لحن .

قلت: ومما يؤيد رواية المد ما رواه الديلمي من طريق مسلمة بن علي، حدثنا عمر مولى غفرة عن أنس رفعه: الغناء واللهو ينبتان النفاق في القلب كما ينبت الماء العشب، والذي نفسي بيده إن القرآن والذكر لينبتان الإيمان في القلب كما ينبت الماء العشب قال السخاوي: قال النووي [ ص: 526 ] لا يصح وعزا القرطبي قول ابن مسعود السابق إلى عمر بن عبد العزيز، قال: وقال الحكم بن عتيبة: حب السماع ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء العشب .

قلت: ولكن عمر بن عبد العزيز صرح بأنه بلغه من الثقات من حملة العلم أن حضور المعازف واستماع المغاني واللهج بهما ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء العشب، هكذا أخرجه ابن أبي الدنيا من طريق جعفر الأموي قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى مؤدب ولده كتابا فيه كذا وكذا، فذكره فهذا ليس فيه أنه من قوله، (ومر على) عبد الله (بن عمر) -رضي الله عنهما- (قوم محرمون وفيهم رجل يتغنى، فقال: ألا لا أسمع الله لكم ألا لا أسمع الله لكم) مرتين هكذا في كشف القناع، إلا أنه اقتصر على القول مرة واحدة، وهكذا هو في العوارف ولفظ صاحب الإمتاع .

ومن الآثار ما روي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه مر بقوم محرمين وفيهم رجل يغني فقال: ألا لا سمع الله بكم (وعن نافع) مولى ابن عمر (أنه قال: كنت مع ابن عمر) -رضي الله عنهما- (في طريق فسمع زمارة راع فوضع أصبعيه في أذنيه ثم عدل عن الطريق فلم يزل يقول: يا نافع أتسمع ذلك حتى قلت: لا فأخرج أصبعيه) من أذنيه، (وقال هكذا رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صنع) .

قال العراقي: ورفعه أبو داود وقال: هذا حديث منكر. انتهى .

قلت: وصححه ابن ناصر شيخ الجوزي وأخرجه ابن أبي الدنيا والبيهقي عن نافع قال: كنت أسير مع ابن عمر فساقاه هكذا .

(وقال الفضيل بن عياض) رحمه الله تعالى: (الغناء رقية الزنا) وهكذا نقله القرطبي وصاحب العوارف يقال: رقيته أرقيه رقيا من حد رمى عوذته بالله، والاسم الرقيا والمرة رقية والجمع رقى كمدية ومدى، (وقال بعضهم: الغناء رائد من رواد الفجور) وأصل الرود الطلب بخداع وتلطف وحيلة، وفي بعض النسخ: من رادة الفجور (وقال يزيد بن الوليد) بن عبد الملك بن مروان أبو خالد بن العباس الأموي ثاني عشر خلفاء بني أمية توفي سنة ست وعشرين ومائة وكان لأم ولد ويسمى الناقص وبقي خمسة أشهر وأياما، مات بدمشق عن ست وأربعين سنة قال: يا بني أمية (إياكم والغناء فإنه ينقص الحياء ويزيد الشهوة ويهدم المروءة وإنه لينوب عن الخمر ويفعل ما يفعله السكر، فإن كنتم لا بد فاعلين فجنبوه النساء فإن الغناء داعية الزنا) نقله القرطبي في كشف القناع قلت: أخرجه ابن أبي الدنيا والبيهقي من طريق أبي عثمان الليثي، قال: قال يزيد بن الوليد. إلخ .

ومن ذلك قول الضحاك: الغناء مفسدة للقلب مسخطة للرب، ومر ابن عمر على جارية تغني فقال: لو كان الشيطان تاركا أحدا لترك هذه، وقول الشعبي: لعن المغني والمغنى له وغير ذلك من الأقوال التي قد مر بعضها (فنقول) في الجواب:

(قول ابن مسعود) -رضي الله عنه- (الغناء ينبت النفاق) في القلب (وأراد به في حق المغني فإنه في حقه ينبت النفاق إذ كان غرضه كله أن يعرض نفسه على غيره ويروج صوته عليه) أي: يزينه (ولا يزال ينافق ويتردد إلى الناس ليرغبوا في غنائه) ويزدادوا ميلا إليه (وذلك أيضا لا يوجب تحريما، فإن) كثيرا من المباحات كذلك، وذلك لأن (لبس الثياب الجميلة وركوب الخيل المهملجة وسائر أنواع الزينة والتفاخر بالحرث والأنعام والزرع) كذا في النسخ، والأولى إسقاط قوله: الزرع فإن الحرث هو الزرع (ينبت الرياء والنفاق في القلب) ويبعثهما (ولا يطلق القول بتحريم ذلك كله فليس السبب في ظهور النفاق في القلب المعاصي فقط بل المباحات التي هي مواقع نظر الخلق أكثر تأثيرا، ولذلك نزل عمر -رضي الله عنه- عن فرس مهملج تحته وقطع ذنبه; لأنه استشعر في نفسه الخيلاء لحسن مشيته) وتلك الهملجة وإنما قطع ذنبه لئلا تطمح نفسه إليه ثانيا، فإن أزين ما في الأفراس بعد معارفها ذيولها (فمبدأ النفاق من المباحات) ثم لو سلم جميع ذلك، وإن ابن مسعود قاله وأنه قصد به الغناء، وقصد التحريم كان قول صحابي وليس بحجة كما هو الصحيح من مذهب الشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد لاسيما مخالفة غيره له من الصحابة .

(وأما قول ابن عمر) -رضي الله عنهما- (ألا لا أسمع الله لكم فلا يدل) أيضا (على التحريم من حيث إنه غناء بل كانوا محرمين ولا [ ص: 527 ] يليق بهم الرفث) حالتئذ وهو الفحش في المنطق (وظهر له من مخايلهم أن سماعهم) لذلك القول (لم يكن لوجد وشوق إلى زيارة بيت الله بل لمجرد اللهو) بمقتضى شهوة النفس (فأنكر ذلك عليهم لكونه بالإضافة إلى حالهم وحال الإحرام) المقتضي لاشتغالهم بالتلبية والذكر والتسبيح والاستغفار المشروعات، فتركهم ذلك واشتغالهم بالغناء يستحقون به الذم والإنكار (وحكايات الأحوال تكثر فيها وجوه الاحتمالات و) أما الجواب عن (وضع الأصبع في أذنيه) حين سمع زمارة راع (فيعارضه أنه لم يأمر نافعا بذلك) أي: بسد أذنيه، (ولا أنكر عليه سماعه) ، ولا ذكر له أنه حرام ولا نهى الراعي، ولو كان حراما لنهى الفاعل، (وإنما فعل ذلك هو; لأنه رأى أن ينزه في الحال سمعه وقلبه عن صوت ربما يحرك اللهو) والشغل به، (ويمنعه عن) استحضار أمر في (فكر كان فيه أو ذكر هو أولى منه) فسد أذنيه ليجتمع له فكره ويستمر في حاله، (وكذلك فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) كما رواه أبو داود (مع أنه لم يمنع ابن عمر) ، وكان معه، (وفعل ابن عمر أيضا لا يدل على التحريم بل يدل على أن الأولى تركه ونحن) فلا نخالفه في ذلك، بل (نرى أن الأولى تركه في أكثر الأحوال) لأكثر الأشخاص، (بل أكثر مباحات الدنيا الأولى تركها إذا علم أن ذلك يؤثر في القلب، فقد خلع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد الفراغ من الصلاة ثوب أبي جهم) بن حذيفة وهي الإنبجانية (إذ كانت عليه أعلام شغلت قلبه) ، وقد تقدم هذا الحديث في كتاب الصلاة .

(أفترى أن ذلك لا يدل على تحريم الأعلام على الثوب) ، ومما يقويه أنه -صلى الله عليه وسلم- بعث ذلك الثوب إلى أبي جهم ليلبسه ولم ينهه عن لبسه وقت الصلاة، وقد صرح -صلى الله عليه وسلم- أنها شغلته مع كمال حاله فأولى أن تشغل أبا جهم، ومع ذلك فلم ينهه عن اللبس، فدل على أنه تنزيه عن الشيء مع أنه يكون مباحا .

(فلعله -صلى الله عليه وسلم- كان في حالة كان صوت زمارة الراعي يشغله عن تلك الحالة كما شغله العلم) بالتحريك واحد الأعلام، (وعن الصلاة بل الحاجة إلى استثارة الأحوال الشريفة من القلب بحيلة السماع) وبواسطة (قصور) في الحال والمقام (بالإضافة إلى من هو دائم الشهود، وإن كان كمالا بالإضافة إلى غيره) ممن هو دونه في الحال والمقام (ولذلك قال) به أبو الحسن علي بن إبراهيم (الحصري) البصري أحد مشايخ الرسالة سكن بغداد، وبها مات سنة371 وكان شيخ وقته حالا وقالا (ماذا أعمل بسماع ينقطع إذا مات من يسمع منه؛ إشارة إلى أن السماع من الله تعالى هو الدائم) ولفظ القشيري في الرسالة: سمعت محمد بن أحمد بن محمد التميمي يقول: سمعت عبد الله بن علي يقول: سمعت الحصري يقول في بعض كلامه: أيش أعمل بسماع ينقطع إذا انقطع من يسمع منه، بل ينبغي أن يكون سماعك سماعا متصلا غير منقطع، قال: وقال الحصري: ينبغي أن يكون ظمأ دائما وشربا دائما، فكلما ازداد شربه ازداد ظمؤه. انتهى .

(فالأنبياء -عليهم السلام- على الدوام في لذة السماع) من الله تعالى (والشهود) لحضرته جل وعز (لا يحتاجون إلى التحريك بالحيلة) ، وأيضا فإن زمارة راع لا تتعين فإن الرعاة كما تقدم يضربون بقصبة تسمى المخارة، وبقصبتين يسمونها المقرونة وبأقصاب متلاصقة يقال: لها الشبجية فالذي امتنع -صلى الله عليه وسلم- من سماعه، وكذا ابن عمر ليس بمتعين فيحتمل ما ذكرناه، فلا يبقى لهم حجة في الحديث إلا بالقياس، فمن يمنع كون القياس حجة يسقط الاستدلال، ومن يقول به يعارض بقياس آخر وبأدلة أخرى .

(وإنما قول الفضيل: هو رقية الزنا، وكل ما عداه من الأقاويل الغريبة) مما تقدم ذكر بعضها (فهو منزل على سماع العشاق) للصور الحسان (والمغتلمين من الشبان) من أصحاب الشهوات النفسية، ولو كان ذلك عاما في الكل (لما سمع من الجاريتين في بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) كما تقدم، ثم بتقدير ما استدل به المانعون فهو معارض بالأدلة التي ذكرناها وطريق الجمع أن يحمل ما أورده على الغناء [ ص: 528 ] المقترن به منكر أو بشعر فيه فحش ونحو ذلك، واعترض المانعون على ذلك بأن الأحاديث التي أوردها المبيحون ليست نصا، وما أوردناه نص في التحريم، وبتقدير تسليمها لم يحصل التوارد على شيء واحد، فإن محل النزاع في الغناء المطرب وليس في أدلتكم ما يدل عليه، أما غناء الجاريتين ففي بعض طرقه وليستا بمغنيتين، وإنما قالت ذلك تحرزا من أن يظن أنه كان يطرب غناؤها ثم إنهما كانتا صغيرتين ولا كلام فيه .

وكذا الجواري التي في حديث الربيع، وأما حديث المرأة التي نذرت فليس غناؤها مما يطرب وكذا المرأة التي جاءت لعائشة فليس غناؤها مما يطرب ثم إنه ليس فيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سمعها وإنما سمعتها عائشة، وسماع المرأة للمرأة مما لا يتناوله النزاع.

قال القرطبي: والظاهر أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يسمعها فإنه وإن لم يكن حراما فهو من اللغو الذي يعرض عنه، وبقية تلك الأحاديث مخصوصة بالعيد والعرس ونحوه، وقال القرطبي: وبتقدير التسليم فهو مخصوص بذلك الزمن مع من يؤمن منه وليس زماننا كذلك، وقال ابن الجوزي: ويدل على أن الغناء كان مما لا يطرب قولها ما تقاولت به الأنصار يوم بعاث، وكذلك حديث الربيع: كن يندبن من قتل يوم بدر وليس فيه ذكر الخدود والقدود والغزالة والغزل .

وروي بسنده إلى عبد الله بن أحمد أنه سأل أباه عما كانوا يغنون به فقال: غناء الركبان: أتيناكم أتيناكم، قال: والظاهر من حال عائشة أنها كانت صغيرة .

والجواب عن ذلك: أما قول القرطبي إن أحاديثهم نص إن أريد بالنص ما لا يحتمل التأويل فلا نسلم فإن مما احتجوا به "لا تبيعوا القينات"، وهذا ليس نصا في التحريم بل ولا دلالة لها على تحريم نفس الغناء، وإنها إن سلم دلالتها فهي تدل على المنع من غناء النساء خاصة، والفرق بين غناء النساء وغيرهن ظاهر، وأما قولهم: ليس ذلك الغناء مما يطرب فلا نسلم، وهل الطرب إلا خفة ورقة يحصل معها الخضوع والخشوع وإثارة الشوق والحزن فحيث كان محمودا كان محمودا، والغناء لم يحرك في القلب ما ليس فيه، وإنما يحرك الساكن ويثير الكامن فحيث كان حسنا كان حسنا، ثم إن كان التحريم في الغناء من حيث الطرب فما الدليل عليه، وقد نقل عن جماعة من الصحابة الطرب كما تقدم، وهو ليس من صفات الذم باتفاق الحكماء والعقلاء، ولا ثبت في الشرع ذمه ولا المنع منه، وإن كانت العلة الاضطراب فيلزمه تحريم جميع أنواع الغناء مما يطرب، وهم قد خصوا غناء الركبان ونشيد الأعراب والحداء بالجواز، ونقلوا الاتفاق عليه وكذا غناء الحجاج والغزاة، والقول بأنه لا يحصل منه طرب مكابرة بل يحصل للإنسان الطرب بمجرد الصوت كما يحصل للإبل والأطفال وبنفس الشعر من غير غناء، ومن ادعى النعب والحداء لا يطربه فذلك لأحد شيئين إما لكثافة طبعه وبعد حسه وإما لما ألفه، وكذلك الغناء المرتب لا يطرب بعض الناس، ثم إن حلهم سماع عائشة أنه من المرأة فإنه إذا كانت العلة الإطراب دار الحكم فيه مع وجود الطرب سواء كانت امرأة تغني لامرأة أم لا، وأما اعتذارهم بقول عائشة ليستا بمغنيتين. إلخ. فليس في اللفظ دلالة على ذلك، ولا دليل على أنها قصدت ذلك، بل قال بعضهم في معنى قولها المذكور أي: لم تكونا ممن تغنى للناس، وقال بعضهم: ليستا بمجيدتين والأول أقرب إلى اللفظ بل في الطريق المنقول عنها: وعندي قينتان. وهذا اللفظ الغالب في استعماله في المعتادة في الغناء المعدة له كما تقدم .

وقوله: إنهما كانتا صغيرتين فهو محتمل إلا أنه ثبت أنهما كانتا كذلك، وذلك ليس بكاف فإنه لو كان حراما لم يفعلاه في بيته -صلى الله عليه وسلم- والمميز يمنع من تعاطي المحرمات إما وجوبا على البالغ أو ندبا .

وكذلك قوله عن عائشة: إنها كانت صغيرة ثم إن عائشة بنى بها النبي -صلى الله عليه وسلم- وهي بنت تسع، وفي بعض طرق الحديث أن الغناء كان في فطر، فأقل ما يكون عمرها عشر سنين، فإما أن تكون بالغة، وقد قال الشافعي: إن نساء تهامة يحضن لتسع، وإما مراهقة، والمراهقة تمنع المحرمات، وقد حكم جماعة من العلماء بمنع الصبي المميز من لبس الحرير ومنع المراهق من النظر، ولو كان جواز ذلك من حيث الطفولية لذكر ردا على أبي بكر ولما علل به بالعيد ولما أنكر أبو بكر على ما احتجوا به من إنكاره وتمسكوا به من قولهم مزمورة، وقول [ ص: 529 ] القرطبي: إن الظاهر أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يسمعها. ظاهر الحديث يخالف ظاهر قوله، فإن فيه: فلما فرغت قال: نفخ الشيطان في منخريها.

وقوله: إنه لو لم يكن محرما لكان من اللغو الذي يعرض عنه غير مسلم، فما كل لغو يمتنع منه ولا كل لهو يمتنع من حضوره وفعله، وغناء الجاريتين كان لهوا، وكان -صلى الله عليه وسلم- حاضره، ولعب الحبشة ورقصهم في المسجد وأشباه ذلك من اللهو واللغو، ثم إنه ليس فيه أنه قصد السماع واستدعاه، وإنما فعل بحضرته فلم ينكره ولا سد أذنيه كما فعل في المزامير، وأمره بالوفاء بالنذر قوي، وكذلك استدعاؤه من عائشة سماع المرأة ثم إنهم لم يثبتوا على تعليل، وإنما إن دل دليل على الجواز حملوه على أنه كان من شعر ليس فيه من ذكر الأوصاف فيجعلون المنع في غيره من جهة الشعر، فإن احتج عليهم بشعر سالم مما ذكره وذكروا تارة الصغر وتارة يحملونه على سماع من يجوز له، وإن رد عليهم من لا يجوز على رأيه سماعه جعلوا أنه كان مما لا يطرب، وهذا كاف في الرد عليهم .

وقولهم: إن ذلك مخصوص بالعيد، والعرس يحتاج إلى دليل المخصص، والأصل التعميم حتى يرد مخصص، ولا نعلم أحدا من أهل الاجتهاد قال بجواز الغناء في العيد والعرس دون غيره، فالقول به إحداث قول آخر، والجمهور على المنع منه، وإن كان الفخر الرازي اختار فيه تفصيلا، وأما احتجاج ابن الجوزي بما ذكره أنهم كانوا يقولون في غنائهم: "أتيناكم أتيناكم" وكذا ندبهم من قتل فلا حجة فيه، فإنه ليس في اللفظ صيغة حصر، فيجوز أن يكون يقولون أشياء هذا من جملتها، ويدل عليه أن في حديث الربيع: ويقولان فيما يقولان: "وفينا نبي يعلم ما في غد" فدل على أنهما كانا يقولان أشياء كثيرة على عادة من يأتي بالغث والسمين، ولو كان كما قال لكان التحريم لأجل ما يعرض في الشعر من ذكر الخدود والقدود كما قال لا لمعنى في الغناء كما بيناه غير مرة، وأما حملهم ذلك على ذلك الزمان فيحتاج إلى دليل، وقد قدمنا في تراجم بعض من ذكر ما يخالف ما قاله وقلما يقع إنصاف ويظهر من ناقص اعتراف، فهذا تمام الكلام على الآيات والأحاديث والآثار .




الخدمات العلمية