الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القسم الرابع : أن يحب لله وفي الله لا لينال منه علما أو عملا ، أو يتوسل به إلى أمر وراء ذاته ، وهذا أعلى الدرجات وهو أدقها وأغمضها ، وهذا القسم أيضا ممكن ، فإن من آثار غلبة الحب أن يتعدى من المحبوب إلى كل من يتعلق بالمحبوب ويناسبه ولو من بعد فمن أحب إنسانا حبا شديدا أحب محب ذلك الإنسان وأحب محبوبه ، وأحب من يخدم من يخدمه ، وأحب من ، يثني عليه محبوبه وأحب من يتسارع إلى رضا محبوبه حتى قال بقية بن الوليد إن المؤمن إذا أحب المؤمن أحب كلبه وهو كما قال ويشهد له التجربة في أحوال العشاق ويدل عليه أشعار الشعراء ولذلك يحفظ ثوب المحبوب ويخفيه تذكرة من جهته ويحب منزله ومحلته وجيرانه حتى قال مجنون بني عامر .


أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدارا     وما حب الديار شغفن قلبي
ولكن حب من سكن الديارا

فإذن المشاهدة والتجربة تدل على أن الحب يتعدى من ذات المحبوب إلى ما يحيط به ، ويتعلق بأسبابه ويناسبه ، ولو من بعد ولكن ، ذلك من خاصية فرط المحبة فأصل المحبة لا يكفي فيه ، ويكون اتساع الحب في تعديه من المحبوب إلى ما يكتنفه ويحيط به ، ويتعلق بأسبابه بحسب إفراط المحبة وقوتها وكذلك حب الله سبحانه وتعالى إذا قوي وغلب على القلب واستولى عليه حتى انتهى إلى حد الاستهتار فيتعدى إلى كل موجود سواه فإن كل موجود سواه أثر من آثار قدرته ومن أحب إنسانا أحب صنعته وخطه وجميع أفعاله ، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم إذا حمل إليه باكورة من الفواكه مسح بها عينيه وأكرمها ، وقال : إنه قريب العهد بربنا .

وحب الله تعالى تارة يكون لصدق الرجاء في مواعيده ، وما يتوقع في الآخرة من نعيمه ، وتارة لما سلف من أياديه وصنوف نعمته وتارة لذاته لا لأمر آخر ، وهو أدق ضرب المحبة ، وأعلاها ، وسيأتي تحقيقها في كتاب المحبة من ربع المنجيات إن شاء الله تعالى ، وكيفما اتفق حب الله ؛ فإذا قوي تعدى إلى كل متعلق به ضربا من التعلق حتى يتعدى إلى ما هو في نفسه مؤلم مكروه ، ولكن فرط الحب يضعف الإحساس بالألم والفرح بفعل المحبوب وقصده إياه بالإيلام يغمر إدراك الألم وذلك كالفرح بضربة من المحبوب أو قرصة فيها نوع معاتبة ، فإن قوة المحبة تثير فرحا يغمر إدراك الألم فيه .

التالي السابق


(القسم الرابع: أن يحب لله وفي الله لا لينال منه علما أو عملا، أو يتوصل به إلى أمر وراء ذاته ، وهذا) إن وجد فهو (أعلى الدرجات) عند القوم (وهو أغمضها وأدقها، وهذا القسم أيضا ممكن، فإن من آثار غلبة الحب أن يتعدى من المحبوب إلى كل من يتعلق بالمحبوب ويناسبه) ويلائمه (ولو من بعد فإن من أحب إنسانا حبا شديدا أحب محب ذلك الإنسان، وأحب محبوبه، وأحب من يخدمه، وأحب من يثني على محبوبه) بالخير (وأحب من يتسارع إلى رضا محبوبه) بكل ما أمكن (حتى قال بقية بن الوليد) بن صائد بن كعب بن حويز الكلاعي الحميري الهيتمي أبو محمد الحمصي من كبار المحدثين استشهد له البخاري .

وروى له مسلم في المتابعات، واحتج به الباقون (إن المؤمن إذا أحب المؤمن أحب كله) ، والمعنى أحب كل شيء يتعلق به حتى كلبه، (وهو كما قال) صحيح، (وتشهد له التجربة) والاختبار (في أحوال العشاق) المغلوبين في وجدهم (وتدل عليه أشعار الشعراء) جاهلية وإسلاما، (ولذلك يحفظ ثوب المحبوب) ، والمراد أثر من آثاره، (وتحفته) التي يتحفه بها (تذكره من جهته) ، وفي بعض النسخ: ثوب المحبوب لذكره من جهته، (ويحب منزله) الذي ينزله (ومجلسه وجيرانه حتى قال مجنون بني عامر) ، واسمه قيس الملوح والمجنون لقبه :


( أمر على الديار ديار ليلى )

، وفي نسخة على منازل آل ليلى

( أقبل ذا الجدار وذا الجدارا وما حب الديار شغفن قلبي )

، وفي نسخة: يهيج قلبي،

( ولكن حب من سكن الديارا )

، ويحكى عنه أنه رآه رجل يكرم كلبا فسأله فقال: رأيته يوما في حي ليلى .

(فإذا المشاهدة والتجربة تدل على أن الحب يتعدى من ذات المحبوب إلى ما يحيط به ، ويتعلق بأسبابه ويناسبه، ولو من بعد، وأكثر ذلك من خاصية فرط المحبة) ، وغلبة الوجد، (فأصل المحبة لا يكفي فيه، ويكون اتساع الحب في تعديه من المحبوب إلى ما يكتنفه ويحيط به، ويتعلق بأسبابه بحسب إفراط المحبة) [ ص: 189 ] والوجد، (وقوتها) وغلبته، (وكذلك حب الله) تعالى (إذا قوي وغلب على القلب) واستقام به، (واستولى عليه) وملكه بالكلية (حتى انتهى إلى حد الاستهتار) وكشف الأستار (فيتعدى إلى كل موجود سواه) ، فيحبه لأجله، وفيه (فإن كل موجود سواه أثر من آثار قدرته) ، وعليه مسحة وحدانية، (ومن أحب إنسانا أحب خطه وصنعته وجميع أفعاله، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم إذا حمل إليه باكورة من الفواكه) ، وهو من أول كل فاكهة ما عجل الإخراج، والجمع البواكير والباكورات (مسح بها عينيه وأكرمها، وقال: إنه قريب عهد بربنا) .

قال العراقي : رواه الطبراني في الصغير من حديث ابن عباس ، ورواه أبو داود في المراسيل، والبيهقي في الدعوات من حديث أبي هريرة دون قوله: وأكرمها.. إلخ، وقال: إنه غير محفوظ، وحديث أبي هريرة عند بقية أصحاب السنن دون مسح عينيه بها وما بعده، وقال الترمذي : حسن صحيح، (وحب الله تارة يكون لصدق الرجاء في مواعيده، وما يتوقع في الآخرة من نعيمه، وتارة) يكون (لما سلف من أياديه) أي: سبق (وصنوف نعمته) الظاهرة والباطنة (وتارة) يكون (لذاته لا لأمر آخر، وهو أدق ضروب المحبة، وأعلاها، وسيأتي تحقيق ذلك في كتاب المحبة إن شاء الله تعالى، وكيفما اتفق حب الله تعالى; فإذا قوي تعدى إلى كل متعلق به ضربا) أي: نوعا (من التعلق حتى يتعدى إلى ما هو في نفسه مؤلم) أي: موجع (مكروه، ولكن فرط الحب يضعف) ويوهن (الإحساس بالألم) ، فلا يحس به أصلا، (والفرح بفعل المحبوب وقصده إياه بالإيلام) ، والإيجاع (يغمر) ، ويغلب (إدراك الألم كالفرح بضربة من المحبوب) بيده أو بعصا (أو قرصة) في عضو من أعضائه، (فيها نوع معاتبة، فإن قوة المحبة تثير فرحا يغمر إدراك الألم فيه) من تلك الضربة أو القرصة، وهنا مقام ضد ذلك، وهو أن يؤلمه ضرب الحبيب وإن كان خفيفا; لأنه لم يكن يعتاد منه ذلك، وعليه حكي أن الحلاج لما صلب أمروا برجمه فرجمه الناس بحجارة، فلم يقل شيئا، ورمته أخته وكانت من المتعبدات العارفات بحصبة صغيرة، فلما أصابته قال: آه، فتعجبت وقالت له: ما بالك لم تقل آه من تلك الحجارة، فقال لها: هؤلاء لا يعلمون ما بي وأنت عارفة محبة والضرب من الحبيب يوجع، ومن هنا المثل على لسان العامة: وردة الحبيب توجع، أي: ولو رماه بالوردة .




الخدمات العلمية