الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وكذلك صح أنه أكل الضب على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد نقل ذلك في الصحيحين .

وأظن أن أبا حنيفة لم تبلغه هذه الأحاديث ، ولو بلغته لقال بها وإن أنصف وإن لم ينصف منصف فيه كان خلافه غلط لا يعتد به ولا يورث شبهة ، كما لو لم يخالف وعلم الشيء بخبر الواحد .

التالي السابق


(وكذلك صح أنه أكل الضب على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله خالد بن الوليد) بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزومي القرشي سيف الله يكنى أبا سليمان من كبار الصحابة، وكان إسلامه بين الحديبية والفتح، وكان [ ص: 71 ] أميرا على قتال أهل الردة وغيرها من الفتوح إلى أن مات سنة إحدى وعشرين، (عنه) أي عن أكل الضب ، (فقال: أحرام يا رسول الله؟ قال: لا، ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه، وأكله خالد ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر) إليه، (وقد نقل ذلك في الصحيحين) أعني كتاب البخاري ومسلم، قال العراقي : هو كما ذكر من حديث ابن عمر وابن عباس وخالد بن الوليد اهـ .

قلت: حديث ابن عمر لفظه: "أن رجلا نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ترى في الضب؟ فقال: لست بآكله ولا محرمه" ، رواه النسائي بهذا اللفظ عن قتيبة عن مالك عن نافع وعبد الله بن دينار عن ابن عمر ، ورواه النسائي أيضا والترمذي عن قتيبة عن مالك عن عبد الله بن دينار وحده بلفظ: "إن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أكل الضب فقال: لا آكله ولا أحرمه" . وقال النسائي : وهو على المنبر، وأخرجه البخاري من رواية عبد العزيز بن مسلم ، ومسلم من رواية إسماعيل بن جعفر وابن ماجه من رواية ابن عيينة كلهم عن عبد الله بن دينار ، لفظ البخاري : الضب لا آكله ولا أحرمه ، ولفظ مسلم : لست بآكله ولا محرمه ، ولفظ ابن ماجه : لا أحرم، يعني الضب ، وأخرجه مسلم أيضا من رواية الليث بن سعد وعبيد الله بن عمر وأيوب السختياني ، ومالك بن مغول وابن جريج وموسى بن عقبة وأسامة بن زيد ، كلهم عن نافع ، وفي رواية عبيد الله : "سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر عن أكل الضب" ، وفي رواية أسامة : "قام رجل في المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر" . وفي رواية أيوب : "أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بضب فلم يأكله ولم يحرمه" ، واتفق عليه الشيخان من رواية الشعبي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان معه ناس من أصحابه فيهم سعد وأتوا بلحم ضب فنادت امرأة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه لحم ضب، فقال صلى الله عليه وسلم: كلوا فإنه حلال، ولكنه ليس من طعامي" ; لفظ مسلم وأخرجه البخاري في خبر الواحد، ولفظه: "فإنه حلال أو قال: لا بأس به" شك فيه، ففيه إباحة أكل لحم الضب إذا لم يحرمه، فهو حلال لأن الأصل في الأشياء الإباحة، وعدم أكله لا يدل على تحريمه، فقد يكون ذلك لعيافة أو غيرها، وقد ورد التصريح بذلك في الصحيح: أنه عليه الس لام قال: لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه" . وقد رفع قوله عليه السلام: "كلوا فإنه حلال" كل إشكال فإنه نص لا يقبل التأويل، وبهذا قال الشافعي وأحمد وجمهور العلماء من السلف والخلف، وكرهه أبو حنيفة ، وحكاه ابن المنذر عن أصحاب الرأي، وحكاه ابن بطال عن الكوفيين ، وحكى ابن المنذر عن علي رضي الله عنه، وحكى ابن حزم عن جابر أنه قال: لا تطعموه وذهبت طائفة إلى تحريمه، حكاه المازري والقاضي عياض وغيرهما، وقال النووي في شرح مسلم : أجمع المسلمون على أن الضب حلال ليس بمكروه إلا ما حكي عن أصحاب أبي حنيفة من كراهته، وإلا ما حكاه عياض عن قوم أنهم قالوا هو حرام، وما أظنه يصح عن أحد، فإن صح عن أحد فمحجوج بالنص وإجماع من قبله اهـ .

قلت: الكراهة قول الحنفية بلا شك كما أسلفناه، واختلفوا في المكروه .

والمروي عن محمد بن الحسن : إن كل مكروه حرام إلا أنه لما لم يجد فيه نصا قاطعا لم يطلق عليه لفظ الحرام، وعن أبي حنيفة وأبي يوسف : إنه إلى الحرام أقرب، وقد قدمنا ذلك قريبا، ولكنا أعدناه هنا ليظهر بذلك وجوه الخلاف في تحريمه أيضا عند أبي حنيفة ، ولهذا نقل العمراني في البيان عن أبي حنيفة تحريمه، وهو ظاهر قول ابن حزم ، ولم ير أبو حنيفة أكله، والخلاف عند المالكية أيضا، فحكى ابن شاس وابن الحاجب فيه، وفي كل ما قيل: إنه ممسوخ ثلاثة أقوال; التحريم والكراهة والجواز، وذكر مسلم أن حديث ابن عباس في أكل خالد بن الوليد للضب ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر هو الناسخ لخبر أبي حنيفة ; لأن ابن عباس لم يجتمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بعد الفتح وحنين والطائف ، ولم يغز بعدها إلا تبوك ، ولم تصبهم في تبوك مجاعة أصلا، وصح أن خبر أبي حنيفة الذي تقدم كان قبل هذا، وهكذا قال ابن حزم في حديث عبد الرحمن بن حسنة أنه صحيح، إلا أنه منسوخ; لأن فيه إكفاء القدور بالضباب خوفا أن يكون من بقايا مسخ الأمم السابقة .

وقال غيره: ليس فيه الجزم بأنها ممسوخة، وإكفاؤها إنما هو على سبيل الاحتياط والورع .

قال الولي العراقي : وأما العيافة فلا تقتضي التحريم وفي [ ص: 72 ] عبارة القاضي أبي بكر بن العربي إشارة إلى التحريم في حق العائف، فإنه قال: ولكن يبقى حلالا لمن اعتاده، فإن صح فسببه خشية الضرر بالعائف، وقد استشكل بعضهم قوله عليه الصلاة والسلام: "ولم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه . وقال: إن الضب موجود بمكة ، وقد أنكر ذلك ابن العربي وقال: إن فيه تكذيب الخبر، وإن الناقل لوجودها كاذب أو سميت له بغير اسمها، أو حدثت بعد ذلك; هذا كلامه، والحق أن قوله: " لم يكن بأرض قومي " لم يرد به الحيوان، وإنما أراد أكله، أي: يمتنع أكله بأرض قومي، وفي المعجم الكبير للطبراني من حديث مرفوعا: أن أهل تهامة تعافها، قال أبو العباس القرطبي : وقد جاء في غير كتاب مسلم أنه عليه السلام إنما كرهه لرائحته فقال: إني يحضرني من الله حاضرة يريد الملائكة، فيكون هذا كنحو ما قال في الثوم: إني أناجي من لا تناجي، قال: ولا بعد في تعديل كراهة الضب لمجموعها، (فالظن بأبي حنيفة ) رحمه الله تعالى (أنه لم تبلغه هذه الأحاديث، ولو بلغته لقال بها إن أنصف) ، قلت: وهذا بعيد ولم ينفرد به أبو حنيفة ، بل هو قول الكوفيين غيره كما حكاه ابن بطال ، وحكاه ابن المنذر عن علي ، وابن حزم عن جابر ، ويستبعد هؤلاء أن لا يبلغهم تلك الأحاديث، وأمثل ما احتج به القائلون بالكراهة أو التحريم حديث عبد الرحمن بن شبل : "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل الضب" ، رواه أبو داود وابن ماجه ، وحديث عائشة قالت: "أهدي لنا ضب، فقدمته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يأكل منه، فقلت: يا رسول الله ألا نطعمها السؤال؟ فقال: إنا لا نطعمهم مما لا نأكل" . وقد اعترض المخالفون فقالوا: حديث عبد الرحمن بن شبل ينفرد به إسماعيل بن عياش وليس بحجة، هذا قول البيهقي ، وقال ابن حزم : فيه ضعفاء ومجهولون، وقال المنذري : في إسناده إسماعيل بن عياش ، وضمضم بن زرعة ، وفيهما مقال، وقال الخطابي : ليس إسناده بذلك، والجواب عن هذا أن هذا الحديث من رواية إسماعيل بن عياش عن ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي راشد الحراني ، عن عبد الرحمن بن شبل ، وضمضم حمصي وابن عياش إذا روى عن الشاميين كان حديثه صحيحا، كذا قاله ابن معين والبخاري وغيرهما، وكذا قال البيهقي نفسه في باب ترك الوضوء من الدم، ولهذا أخرج أبو داود هذا الحديث، وسكت عليه، فهو حسن عنده على ما عرف، وقد صحح الترمذي لابن عياش عدة أحاديث من روايته لأهل بلده فتأمل ذلك .

وتقدم أن القول بالكراهة هو مذهب أبي يوسف ومحمد ، وخالفهم أبو جعفر الطحاوي ، فذهب إلى ما ذهب إليه الشافعي والجماعة .

وأما حديث عائشة وهو الذي احتج به محمد واعتمد عليه صاحب الهداية، فقد رواه أبو حنيفة عن حماد عن أبي إبراهيم ، عن الأسود عن عائشة ، وكذا رواه أحمد وأبو يعلى والطحاوي من طريق يزيد بن هارون وعفان ومسلم بن إبراهيم ، كلهم عن حماد بن سلمة .

(ولو لم ينصف منصف فيه كان خلافه غلطا لا يعتد به ولا يورث شبهة، كما لو لم يخالف وعلم الشيء بخبر الواحد) كما سيأتي بيانه .




الخدمات العلمية