الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقال الفضيل من عرف ما يدخل جوفه كتبه الله صديقا ، فانظر عند من تفطر يا مسكين وقيل : لإبراهيم بن أدهم رحمه الله لم لا تشرب من ماء زمزم فقال ؟ : لو كان لي دلو شربت منه .

وقال سفيان الثوري رضي الله عنه : من أنفق من الحرام في طاعة الله كان كمن طهر الثوب النجس بالبول ، والثوب النجس لا يطهره إلا الماء ، والذنب لا يكفره إلا الحلال .

وقال يحيى بن معاذ : الطاعة خزانة من خزائن الله إلا أن مفتاحها الدعاء وأسنانه لقم الحلال .

وقال ابن عباس رضي الله عنهما لا يقبل الله صلاة امرئ في جوفه حرام .

وقال سهل التستري : لا يبلغ العبد حقيقة الإيمان حتى يكون فيه أربع خصال أداء الفرائض بالسنة وأكل الحلال بالورع واجتناب النهي من الظاهر والباطن ، والصبر على ذلك إلى الموت .

وقال من أحب أن يكاشف بآيات الصديقين فلا يأكل إلا حلالا ، ولا يعمل إلا في سنة أو ضرورة .

ويقال : من أكل الشبهة أربعين يوما أظلم قلبه وهو تأويل قوله تعالى : كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون وقال ابن المبارك : رد درهم من شبهة أحب إلي من أن أتصدق بمائة ألف درهم ومائة ألف ومائة ألف حتى بلغ إلى ستمائة ألف .

وقال بعض السلف : إن العبد يأكل أكله فيتقلب قلبه فينغل كما ينغل الأديم ولا يعود إلى حاله أبدا .

وقال سهل رضي الله عنه من أكل الحرام عصت جوارحه شاء أم أبى ، علم أو لم يعلم .

ومن كانت طعمته حلالا أطاعته جوارحه ووفقت للخيرات ، وقال بعض السلف : إن أول لقمة يأكلها العبد من حلال يغفر له ما سلف من ذنوبه ، ومن أقام نفسه مقام ذل في طلب الحلال تساقطت عنه ذنوبه كتساقط ، ورق الشجر .

وروي في آثار السلف أن الواعظ كان إذا جلس للناس قال العلماء : تفقدوا منه ثلاثا فإن كان معتقدا لبدعة فلا تجالسوه ، فإنه عن لسان الشيطان ينطق ، وإن كان سيئ الطعمة فعن الهوى ينطق فإن ، لم يكن مكين العقل فإنه يفسد بكلامه أكثر مما يصلح ، فلا تجالسوه .

وفي الأخبار المشهورة عن علي عليه السلام ، وغيره : إن الدنيا حلالها حساب وحرامها عذاب .

وزاد آخرون وشبهتها عتاب .

التالي السابق


(وقال الفضيل) بن عياض رحمه تعالى: (من عرف ما يدخل جوفه كتبه الله صديقا، فانظر عند من تفطر يا مسكين) ، ولفظ القوت: وقال الفضيل بن عياض : من أقام نفسه موقف ذل في طلب الحلال حشره الله مع الصديقين ورفعه مع الشهداء في موقف القيامة . وقال بعض السلف: إذا صمت فانظر عند من تفطر، وطعام من تأكل، اهـ، والمصنف قد خلط بين القولين وراعى الاختصار (وقيل: لإبراهيم بن أدهم ) رحمه الله تعالى ( لم لا تشرب من ماء زمزم؟ قال: لو كان لي دلو لشربت منه ) ، أورده القشيري في الرسالة، وهذا من شدة ورعه رحمه الله تعالى، كان يأبى أن يشربه لما كان يرى من الشبهة في الدلاء والحبال، (وقال سفيان) بن سعيد (الثوري:) رحمه الله تعالى (من أنفق من الحرام في طاعة الله تعالى) كأن تصدق به أو أعان به غازيا أو غيره، (كان كمن طهر الثوب النجس بالبول، والثوب النجس لا يطهر إلا بالماء، والذنب لا يكفره إلا الحلال ، وقال يحيى بن معاذ:) الرازي، تقدمت ترجمته في كتاب العلم، (الطاعة) أي: طاعة الله تعالى (خزانة) بالفتح ولا تكسر، (من خزائن الله تعالى ومفتاحها) الذي تفتح به (الدعاء) ، أي: حسن التضرع إلى الله تعالى، (وأسنانها) كذا في النسخ، والصواب وأسنانه، أي: المفتاح (لقمة الحلال) ، فالمدار عليها كما أن مدار المفتاح على أسنانه، (وقال ابن عباس ) رضي الله عنهما ( لا يقبل الله صلاة امرئ وفي جوفه حرام ) ، وقد روي عنه أيضا: "من أكل حراما لم يقبل الله منه صرفا ولا عدلا" ، وتقدم قريبا (وقال) أبو محمد (سهل) بن عبد الله (التستري:) رحمه الله تعالى (لا يبلغ العبد حقيقة الإيمان حتى يكون فيه أربع خصال) ، ولفظ القوت: هذه الأربع، (أداء الفرائض بالسنة) ، أي: كما شرعت وسنت (وأكل الحلال بالورع) ، أي: باستعماله فيه (واجتناب النهي من الظاهر والباطن، والصبر على ذلك إلى الممات) ، أي: فمن استكمل هذه الأربع، فقد تشرف بحقيقة الإيمان، وبلغ درجتها، (وقال) سهل أيضا: (من أحب أن) يرى خوف الله في قلبه و (يكاشف بآيات الصديقين فلا يأكل إلا حلالا، ولا يعمل إلا في سنة) أو ضرورة، نقله صاحب القوت، وقال بعض العلماء: الدعاء محجوب عن السماء بفساد الطعمة ، ويقال: إن الله عز وجل لا يستجيب دعاء عبد حتى يصلح طعمته ويرضى عمله، (ويقال: من أكل الشبهة أربعين يوما أظلم قلبه) ، قال صاحب القوت: (وهو) في (تأويل قوله تعالى: كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ) قيل: غلاف القلب من مكاسب الحرام .

( وقال ابن المبارك:) عبد الله رحمه الله تعالى (رد درهم) من (شبهة أحب إلي من أن أتصدق بمائة ألف درهم ومائة ألف) درهم (حتى بلغ) ولفظ القوت: حتى يبلغ، (ستمائة ألف) ، ومثله قول مالك بن دينار : ترك درهم حرام أحب إلى الله تعالى من أن يتصدق بمائة ألف ، (وقال بعض السلف: إن العبد ليأكل أكلة فينقلب) بها (قلبه) ، أي: يتغير عما كان عليه (فينغل) أي: ينسد (كما ينغل الأديم) ، وهو الجلد قبل أن يدبغ، (فلا يعود إلى حاله أبدا) ، وهذا أحسن التأويلين في قوله صلى الله عليه وسلم: "كم من صائم حظه من صيامه الجوع والعطش" ، قيل: هو الذي يصوم ويفطر على حرام، ( وقال سهل) التستري رحمه الله [ ص: 12 ] تعالى: (من أكل الحرام عصت) عليه (جوارحه) ، أي: عن الطاعات، (شاء أم أبى، علم أو لم يعلم، ومن أكل طعمته حلالا أطاعت جوارحه ووفقت) ، ولفظ القوت ووفق (للخيرات، وقال بعض السلف: إن أول لقمة يأكلها العبد من الحلال يغفر الله) له (بها ما سلف من ذنوبه، ومن أقام نفسه مقام ذل في طلب الحلال تساقطت عنه ذنوبه، كما يتساقط ورق الشجر) في الشتاء إذا يبس، نقله صاحب القوت .

(وروي في آثار السلف) ، ولفظ القوت، وحدثونا من آثار السلف (إن الواعظ) والمذكر (كان إذا جلس للناس) ، ونصب نفسه للناس (قال العلماء: تفقدوا منه ثلاثا) ، ولفظ القوت: سئل أولا عن مجالسته فكانوا يقولون: تفقدوا منه ثلاثا انظروا إلى صحة اعتقاده وإلى غريزة عقله وإلى طعمته، (فإن كان معتقدا البدعة فلا تجالسوه، فإنه عن لسان الشيطان ينطق، وإن كان سيئ الطعمة فعن الهوى ينطق، وإن لم يكن مكين العقل فإنه يفسد بكلامه أكثر ما يصلح، فلا تجالسوه) ، وهذا التفقد والبحث طريق قد مات، فمن عمل به فقد أحياه، (وفي الأخبار المشهورة عن علي رضي الله عنه، وغيره: إن الدنيا حلالها حساب وحرامها عذاب ) ، وفي بعض النسخ: عقاب، كذا في القوت، (وزاد آخرون وشبهتها عتاب) ، وبيان ذلك في قول يوسف بن أسباط ووكيع بن الجراح ، قال: الدنيا عندنا على ثلاث مراتب; حلال وحرام وشبهات، فحلالها حساب، وحرامها عقاب، وشبهاتها عتاب، فخذ من الدنيا ما لا بد منه، فإن كان ذلك حلالا كنت زاهدا، وإن كان شبهة كنت ورعا، وإن كان حراما كان عقابا يسيرا ، ويؤيد ما رواه البيهقي من حديث ابن عمر : "الدنيا خضرة حلوة، من اكتسب فيها مالا من حله وأنفقه في حقه، أنابه الله عليه وأورده جنته، ومن اكتسب فيها مالا من غير حله وأنفقه في غير حقه أحله الله دار الهوان، ورب متخوض في مال الله ورسوله له النار إلى يوم القيامة" .




الخدمات العلمية