الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الخامس : أن يطلب التقرب إلى قلبه وتحصيل محبته لا لمحبته ، ولا للأنس به من حيث إنه أنس فقط ، بل ليتوصل بجاهه إلى أغراض له ينحصر جنسها وإن لم ينحصر عينها وكان لولا جاهه وحشمته لكان لا يهدى إليه ، فإن كان جاهه لأجل علم أو نسب ، فالأمر فيه أخف وأخذه مكروه فإن فيه مشابهة الرشوة ، ولكنها هدية في ظاهرها فإن كان جاهه بولاية تولاها من قضاء أو عمل أو ولاية صدقة أو جباية مال أو غيره من الأعمال السلطانية حتى ولاية الأوقاف مثلا ، وكان لولا تلك الولاية لكان لا يهدى إليه ، فهذه رشوة عرضت في معرض الهدية ، إذ القصد بها في الحال طلب التقرب واكتساب المحبة ، ولكن الأمر ينحصر في جنسه إذ ما يمكن التوصل إليه بالآيات لا يخفى ، وآية أنه لا يبغي المحبة أنه لو ولي في الحال غيره لسلم المال إلى ذلك الغير ، فهذا مما اتفقوا على أن الكراهة فيه شديدة ، واختلفوا في كونه حراما ، والمعنى فيه متعارضا ، فإنه دائر بين الهدية المحصنة وبين الرشوة المبذولة في مقابلة جاه في غرض معين ، وإذا تعارضت المشابهة القياسية وعضدت الأخبار والآثار أحدهما تعين الميل إليه .

التالي السابق


القسم (الخامس: أن يطلب التقرب إلى قلبه وتحصيل محبته لا لمحبته، ولا للأنس به فقط ، بل ليتوصل بجاهه إلى أغراض له ينحصر جنسها وإن لم ينحصر نوعها) ، وفي بعض النسخ: وإن لم يتخصص عينها، (وكان لولا جاهه وحشمته لما أهدي إليه، فإن كان جاهه لأجل علم أو نسب، فالأمر فيه أخف وأخذه مكروه) كراهة تنزيه، (فإن فيه شائبة الرشوة، ولكنها هدية في ظاهرها) ، قال التقي السبكي : الهدية لا يقصد بها إلا استمالة القلب ، والرشوة يقصد بها الحكم الخاص مال القلب أو لم يمل ، فإن قلت: العاقل إنما يقصد استمالة قلب غيره لغرض صحيح، أما مجرد استمالة القلب من غير غرض أجر، فلا، قلت: صحيح لكن استمالة القلب له بواعث; منها أن تترتب عليه مصلحة مخصوصة معينة كالحكم مثلا، فها هنا المقصود تلك المصلحة، وصارت استمالة القلب وسيلة غير مقصودة; لأن القصد متى علم بعينه لا يقف مع سببه، فدخل هذا في قسم الرشوة، ومنها أن تترتب عليه مصالح لا تنحصر إما أخروية كالأخوة في الله تعالى والمحبة، وقيل: ثوابها وما أشبه ذلك لعلم أو دين، فهذه مستحبة والإهداء لها مستحب، ومنها أن تكون دنيوية كالتوصل بذلك إلى أغراض له لا تنحصر بأن يكون المستمال قلبه صاحب جاه، فإن كان جاهه بالعلم والدين فذلك جائز، وهل هو جائز بلا كراهة أو بكراهة تنزيه، اقتضى كلام الغزالي في الإحياء الثاني، ومراده في القبول للهدية وهو صحيح; لأنه قد يكون أكل بعلمه أو دينه، أما الباذل فلا يكره له ذلك، وإن كان جاهه بأمر دنيوي، فإن لم يكن ولاية بل كان له وجاهة بمال أو صلة عند الأكابر، ويقدر على نفعه، فهذا لا يكره الإهداء إليه لهذا الغرض، وأما قبوله فهو أقل كراهة من الذي قبله، بل لا تظهر فيه كراهة، لأنه لم يأكل بعلمه ولا دينه، وإنما هو أمر دنيوي، ولم يخرج من حد الهدية، فلا كراهة، (فإن كان جاهه لولاية تولاها من قضاء أو عمل أو ولاية صدقة أو جباية مال أو غيره من الأعمال السلطانية حتى ولاية الأوقاف مثلا، وكان لولا تلك الولاية لما أهدي إليه، فهذه رشوة عرضت في معرض الهدية، إذ القصد بها في الحال طلب المحبة واكتساب المحبة، ولكن لا ينحصر جنسه [ ص: 161 ] إذ ما يمكن التوصل إليه بالولاية لا يخفى، وآية أنه لا تبقى المحبة إلا به أنه لو ولي في الحال غيره لسلم المال إلى ذلك الغير، فهذا ما اتفقوا على أن الكراهة فيه شديدة، واختلفوا في كونه حراما، والمعنى فيه متعارض، فإنه دائر بين الهدية المحضة وبين الرشوة المبذولة في مقابلة جاء محض في غرض معين، وإذا تعارضت المشابهة القياسية وعضدت الأخبار والآثار أحدهما تعين الميل إليه) ، وعبارة السبكي في فصل المقال: وإن كان جاهه ولاية ولم يقصد حكما منه، وإنما قصد استمالة قلبه عسى أن ينتفع به في مهماته وينال بمحبته خيرا، فهذا محل التردد يحتمل أن يقال: إنه هدية لكونه ليس له غرض خاص، ويحتمل أن يقال: هو رشوة لكون المهدى إليه في مظنة الحكم، فاستدل الغزالي بحديث ابن اللتبية على التحريم، وبكون هذا وإن كان القصد استمالة القلب من غير قصد خاص خرج من قسم الهدية ودخل في قسم الرشوة بالحديث، والذي أقوله: إن هذا قسم متوسط بين الهدية والرشوة صورة حكما، وإن حكمه أن يجوز القبول، ويوضع في بيت المال، وحكم ما سواه من الهدايا يؤخذ ويتملكه المهدى له، وحكم الرشوة أن لا يؤخذ، بل يرد إلى صاحبها وإنما صار حكم القسم المتوسط هكذا بالحديث، وسره أنه بالنسبة إلى صورته جاز الأخذ لإعراض المعطى عنه، وعدم تعلق قصده بعوض خاص، وبالنسبة إلى معناه، وأن المعطى له نائب عن المسلمين جعلت للمسلمين بأن كان واليا عاملا أو قاضيا وإن كان عامل صدقة جعلت في الصدقات الذي هو نائب عن أصحابها، فإن قلت: فإذا كان المهدى إليه غير حاكم، قلت: إن كان نائبا أو حاجبه أو من ندبه وولاه اتصال الأمور وما أشبه ذلك، فهو مثله، وعلى الجملة كل من تولى ولاية يتعين عليه ذلك الفعل فيها، أو يجب وإن لم يتعين كما إذا كان اثنان في وظيفة يحرم على كل منهما أن يأخذ على شغل مما يجب أو يحرم، فإن قلت: فإن كان مما لا يجب ولا يحرم، بل يجوز هل يجوز الأخذ عليه، قلت: هذا في حق المتولي عزيز، فإنه يجب عليه رعاية المصالح، فمتى ظهرت مصلحة في شيء وجب، ومتى ظهر خلافها حرم، ومتى أشكل وجب النظر، فأين يوجد في فعل القاضي ونحوه ممن يلي أمور المسلمين مما يتخير بين فعله وتركه على سبيل التشهي، وإن فرض ذلك فيحرم الأخذ عليه أيضا; لأنه نائب عن الله تعالى في ذلك الفعل، فكما لا يأخذ على حله لا يأخذ على فعله، وأعني بهذا ما يتصرف فيه القاضي غير الأحكام من التولية ونحوها، فلا يجوز له أن يأخذ من أحد شيئا على أن يوليه نيابة قضاء أو مباشرة وقف أو مال يتيم، وكذلك لا يجوز له أن يأخذ شيئا على ما يتعاطاه من العقود والفروض والفسوخ، وإن لم تكن هذه الأشياء أحكاما بمعنى أنها ليست تنفيذا لما قامت به الحجة، بل إنشاء تصرفات مبتدأة، ولكن الأخذ عليها يمتنع كالحكم; لأنه نائب فيها عن الله تعالى، كما هو نائب في الحكم عنه .




الخدمات العلمية