الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وإن كان فيه الجلاجل وكالطبل والشاهين والضرب بالقضيب وسائر الآلات .

التالي السابق


وقول المصنف: (وإن كان فيه جلاجل) في أصح الوجهين وتبعه الرافعي في الشرح الكبير، وذكر المصنف في البسيط الوجهين فقال: إن لم يكن بجلاجل فمباح، وإن كان بجلاجل فوجهان ولم يصحح أحدهما وكأنه تبع شيخه إمام الحرمين حيث قال في النهاية : ولا يحرم الدف إذا لم يكن بجلاجل، فإن كان بجلاجل فوجهان، والوجه الثاني أنه حرام، وهو الذي أورده القاضي حسين في تعليقه والشاشي في الحلية، وإيراد ابن درياس في شرح المهذب يقتضيه، ونقله في الذخيرة من كتب الحنفية عن أبي الليث السمرقندي، قال: الذي يضرب به في زماننا هذا مع الصنجات والجلاجل ينبغي أن يكون مكروها، وإنما الخلاف في ذلك الذي كان يضرب به في الزمان المتقدم، وقال القرطبي من المالكية: لما استثني الدف فيما ذكرنا من المواضع ولا يلحق بذلك الطارات ذات الصلاصل والجلاجل لما فيها من زيادة الإطراب .

(وكالطبل والشاهين والضرب بالقضيب وسائر الآلات) وأما الطبل بأنواعه فقد قال المصنف هنا وفي البسيط: تباع سائر الطبول غير الكوبة، وتابعه الرافعي وهو مذهب أهل الظاهر واختاره ابن طاهر، وذهبت طائفة إلى تحريم الطبول كلها غير طبل الحرب، قال القاضي حسين في تعليقه: أما ضرب الطبول فإن كان طبل لهو فلا يجوز، وإن كان طبل حرب فيجوز ضربه ولا يكره، والماوردي قسم الآلات إلى: محرم ومكروه ومباح، وجعل من المحرم طبل الحرب، والحليمي في منهاجه استثنى طبل الحرب والعيد وأطلق تحريم سائر الطبول، ولكنه حصر ما استثناه في العيد للرجال خاصة، والقرطبي المالكي وابن الجوزي الحنبلي استثنيا أيضا طبل الحرب وقال الخوارزمي الشافعي في الكافي: يحرم طبل اللهو، وأطلقت طائفة القول بتحريم الطبول كلها ولم تستثن، ومنهم العمراني صاحب البيان والبغوي صاحب التهذيب والسهروردي صاحب الذخيرة، وحكاه صاحب الاستقصاء عن الشيخ أبي حامد، وأطلق أيضا ابن أبي عصرون في كتاب التنبيه له، وأما الشاهين فهو الصرناي، وقد تقدم حكمه عند ذكر سائر الآلات .

أما الضرب بالقضيب ويسمى التعبير، فللعلماء أيضا خلاف، فذهبت طائفة إلى تحريمه منهم البغوي وأبو بكر بن المظفر الشافعيان وحكاه السامري وابن حمدان عن بعض الحنابلة وإطلاقات عن بعض الحنابلة، وإطلاقات المالكية تشمله، وفي فتاوى الصدر الشهيد من الحنفية أنه حرام [ ص: 504 ] وتقدم قول الشافعي: خلفت بالعراق شيئا يسمى التعبير أحدثه الزنادقة ليشغلوا به عن القرآن والذكر، إلا أن كلام الشافعي يقتضي أنه إنما كرهه لعلة أخرى، فقد ذكر الحافظ المنذري في الفوائد السفرية أن الشافعية قالت: إن الكراهة من حيث قوله قالت الفلانية وهو كذب، وذهبت طائفة إلى كراهته، وهذا ما أورده العراقيون من الشافعية وجماعة من الخراسانيين، واختاره من الحنابلة السامري، وقال ابن حمدان أيضا: حكمه حكم الغناء إن كره كره وإن حرم حرم، وذهبت طائفة إلى إباحته، وبه قطع المصنف هنا واقتضاه إيراد الحليمي والفوراني وإليه ذهب ابن طاهر، وإطلاق الظاهرية يشمله .

وفي البدائع من كتب الحنفية أن الضرب بالقضيب والدف لا بأس به بخلاف العود، وذهبت طائفة إلى تفصيل فقالوا: إن كان مع الغناء فهو مكروه، وإن كان مفردا فهو مباح، وهذا ما أورده صاحب الحاوي وابن درياس من الشافعية وحكاه الشيخ شمس الدين الحنبلي في شرح المقنع ولم يحك غيره ولم يثبت نص في ذلك، وفي الفوائد السفرية للحافظ المنذري أنه قيل للربيع قول الشافعي: أكره التعبير، فقال: ما أدري ما هذا، كان الشافعي يسمع مثل هذا ولا ينكره .



(فصل)

في الكلم على الشبابة وهي اليراعة المثقبة وتحتها أنواع قصبة واحدة ويسمى الزير والفحل وقصبتان أحدهما تحت أخرى ويسمى الموصول ونوع يسمى المنحارة، وهي التي تضرب بها الرعاة، فذهبت طائفة إلى تحريم الضرب وهو الموجود في كتب الأئمة الثلاثة واختاره من الشافعية البغوي، وجزم به ابن أبي عصرون ونقل الحموي في شرح الوسيط عن الشيخ أبي علي أنه قال: صوت اليراعة مختلف فيه، والقياس تحريمه كسائر المزامير، وادعى النووي أنه الأصح، ونقل عن القزويني من المتأخرين ترجيحه وذهبت طائفة إلى الإباحة وهو مذهب الظاهرية، اختاره ابن طاهر المقدسي وأبو بكر العامري واقتضاه سياق المصنف .

وقال الرافعي في الشرح الصغير: إنه الأظهر، وقال في الشرح الكبير: إنه الأقرب، وكلام الروياني يشعر بالإباحة فإنه لم يحك التحريم ولا الكراهة، وحمل ما ورد على غير الشبابة وقال الجاجرمي ولا يحرم اليراع، واختار الجواز من المتأخرين ابن الفركاح والعز بن عبد السلام وابن دقيق العيد والبدر ابن جماعة، قال صاحب الإمتاع: سمعت ذلك من لفظه مرارا، والقاضي حسين وإمام الحرمين حكيا في المذهب وجهين ولم يرجحا شيئا، وقال التاج الشريشي المالكي أنه مقتضى المذهب الفقهي والفقه المذهبي، وذهب الماوردي في الحاوي إلى أنها في الأمصار مكروهة وفي الأسفار والمرعى مباحة ولم يحك غير هذا، وحكاه الروياني عنه في التحريم ولم يحك خلافه، وقال في الوصية: الشبابة التي يعمل فيها في الحرب وفي الأسفار يجوز الوصية بها مع منعه الوصية في المزامير، هكذا ذكر صاحب الحاوي .

وقال الرافعي: وقد روي أن داود -عليه السلام- كان يضرب بها في غنمه، قال: وروي عن الصحابة الترخص في اليراع قالوا والشبابة تحث على السير وتجمع البهائم إذا سرحت وتجري الدمع وترق القلب، وهذه المعاني ليست موجودة في المزامير وبمثل هذا أجاب المصنف، ولم تزل أهل الصلاح والمعارف يحضرون السماع بالشبابة وتجري على يدهم الكرامات الظاهرة ولهم الأحوال السنية، ومرتكب المحرم ولا سيما إذا أصر عليه يفسق به .



(فصل)

في العود ويسمى المزهر والكران والموتر والعرطبة والكبارة والقنين، وألحق بعضهم به الطنبور، والصحيح أنه غيره، وله ذكر في كلام العرب وأشعارهم وهو آلة كاملة وافية لجميع النغمات، فإنه مركب على حركات نفسانية، فالأوتار الأربعة هي: الزير والمثنى والمثلث والبم تقابل الأخلاط الأربعة السوداء والصفراء والبلغم والدم .

قال ابن الكلبي: وأول من عمله رجل من بني قابيل بن آدم يقال: له الملك بن آدم، عمر زمانا طويلا ولم يكن يولد له فتزوج خمسين امرأة وتسرى بمائتي جارية فولد له غلام قبل أن يموت بعشر سنين فاشتد فرحه به فلما أتت على الغلام خمس سنين مات فجزع عليه جزعا شديدا، فأخذه فعلقه على شجرة وقال: لا تذهب صورته عن عيني فجعل لحمه يقع وعظامه تسقط حتى بقيت الفخذ والساق والقدم [ ص: 505 ] والأصابع فأخذ عودا فشقه ورفعه وجعل يؤلف بعضه إلى بعض وجعل صدره على صورة الفخذ والعنق على صورة الساق والإبزيم على صورة القدم والملك على صورة الأضلاع وعلق عليه أوتارا كالعروق ثم جعل يضرب به ويبكي . اهـ .

وقد اختلف العلماء فيه، فالمعروف في مذاهب الأئمة الأربعة أن الضرب به وسماعه حرام، وذهبت طائفة إلى جوازه وحكي إسماعه عن عبد الله بن جعفر وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير ومعاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص وحسان بن ثابت -رضي الله عنهم- وعن عبد الرحمن بن حسان وخارجة بن زيد، ونقله الأستاذ أبو منصور عن الزهري وسعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح والشعبي وعبد الله بن أبي عبيد، وأكثر فقهاء المدينة، وحكاه الحليمي عن عبد العزيز بن الماجشون وقدما ذلك عن إبراهيم وابنه سعد، وحكاه الأستاذ أبو منصور وأيضا عن مالك، وكذلك حكاه الطوراني في كتابه "الغمد"، وحكى الروياني عن القفال أنه حكى عن مالك أنه كان يبيح الغناء على المعازف، وحكاه الماوردي في الحاوي عن بعض الشافعية، ومال إليه الأستاذ أبو منصور، ونقل الحافظ ابن طاهر عن الشيخ أبي إسحاق الشيرازي أنه كان مذهبه، وأنه كان مشهورا عنه، وأنه لم ينكره عليه أحد من علماء عصره، وابن طاهر عاصر الشيخ واجتمع به وهو ثقة، وحكاه عن أهل المدينة وادعى أنه لا خلاف فيه بينهم، وإليه ذهب الظاهرية حكاه ابن حزم وغيره، قال صاحب الإمتاع: ولم أر من تعرض للكراهة ولا لغيرها إلا ما أطلقه الشافعي في الأم حيث قال: وأكره اللعب للخبر أكثر ما أكره اللعب بشيء من الملاهي، فإطلاقه يشمل الملاهي كلها، ويندرج فيه العود وغيره، وقد تمسك بهذا النص من أصحابه من جعل النرد مكروها غير محرم، وما حكاه المازري في شرح التلقين عن ابن عبد الحكم أنه قال: إنه مكروه ونقل عن العز بن عبد السلام أنه سئل عنه فقال: إنه مباح، وهذا الذي يقتضيه سياق المصنف هنا .



(فصل في الصفاقتين)

اختلف العلماء في الضرب بهما فذهبت طائفة إلى التحريم وهو اختيار الشيخ أبي محمد الجويني وجزم به المصنف وجرى عليه الرافعي وإطلاق المالكية تحريم الآلات كلها غير ما استثنوه يشمله، وحكى ابن أبي الدم في شرح الوسيط خلافا، وتوقف إمام الحرمين ومال إلى الجواز، وقياس من أباح الضرب بالقضيب إباحته بالأولى إذ ليس هو مما يطرب لا مفردا ولا مضافا، وأهل الظاهر يبيحون جميع الآلات فيندرج فيها، ومقتضى ما قاله بعض الشافعية والحنابلة كراهته وأنهم قالوا: كل ما لا يطرب بانفراده فالضرب به مكروه، والمحرمون اعتمدوا فيه على أن المخنثين يعتادون الضرب به ولا يخفى توجيه الأقوال والأجوبة من جهة المبيحين، والإباحة التي تظهر .



(فصل في الصنوج)

ذهبت طائفة إلى التحريم وبه قال من الشافعية القاضي حسين وصاحبه البغوي، وحكاه ابن أبي الدم عن الشيخ أبي علي، وبه قطع المصنف والرافعي وإطلاقات المالكية وغيرهم ممن يرى تحريم جميع الآلات يشمله، وقال الماوردي: إنه مكروه مع الغناء ولا يكره إذا انفرد، والظاهرية يبيحون جميع الآلات وقياس قول من يبيح القضيب من الشافعية والحنابلة إباحة الصنوج ولم يثبت نص في المنع .




الخدمات العلمية