الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ولقد توقف العلماء في مسائل هي أوضح من هذه إذ سئل أحمد بن حنبل رحمه الله عن رجل رمى صيدا فوقع في ملك غيره أيكون الصيد للرامي أو لمالك الأرض ؟ فقال : لا أدري ، فروجع فيه مرات فقال : لا أدري وكثيرا من ذلك حكيناه عن السلف في كتاب العلم فليقطع المفتي طمعه عن درك الحكم في جميع الصور ، وقد سأل ابن المبارك صاحبه من البصرة عن معاملته قوما يعاملون السلاطين ، فقال : إن لم يعاملوا سوى السلطان فلا تعاملهم ، وإن عاملوا السلطان وغيره فعاملهم وهذا يدل على المسامحة في الأقل ، ويحتمل المسامحة في الأكثر أيضا وبالجملة فلم ينقل عن الصحابة أنهم كانوا يهجرون بالكلية معاملة القصاب والخباز والتاجر لتعاطيه عقدا واحدا فاسدا ، أو لمعاملة السلطان مرة وتقدير ذلك فيه بعد والمسألة مشكلة في نفسها .

فإن قيل : فقد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه رخص فيه وقال : خذ ما يعطيك السلطان ، فإنما يعطيك من الحلال وما يأخذ من الحلال أكثر من الحرام وسئل ابن مسعود رضي الله عنه ذلك فقال له السائل : إن لي جارا لا أعلمه إلا خبيثا يدعونا أو نحتاج فنستسلفه فقال : إذا دعاك فأجبه وإذا احتجت فاستسلفه فإن لك المهنأ وعليه المأثم وأفتى سلمان بمثل ذلك .

التالي السابق


(ولقد توقف العلماء) فيما سلف (في مسائل هي أوضح من هذا) وأظهر، (إذ سئل أحمد بن حنبل ) رحمه الله تعالى (عن رجل رمى صيدا فوقع في ملك غيره أن الصيد للرامي أو لمالك الأرض؟ فقال: لا أدري، فروجع فيه مرات فقال: لا أدري) ، والذي في القوت ما لفظه: وحدثنا عن أبي بكر المروزي قال: قال أبو عبد الله ، وذكر مسائل ابن المبارك فقال: كان فيها مسألة دقيقة سئل ابن المبارك عن رجل رمى طيرا فوقع في أرض قوم لمن الصيد؟ قال: لا أدري، قلت لأبي عبد الله : فما تقول أنت فيها؟ قال: هذه دقيقة ما أدري فيها اهـ .

(وكثير من ذلك حكيناه عن السلف في كتاب العلم) ، ومما لم يذكره في كتاب العلم، قال أبو بكر المروزي : وسئل أبو عبد الله عن رجل اشترى حطبا واكترى دواب وحمله، ثم تبين بعد أنه يكره ناحيتها كيف يصنع بالحطب؟ ترى أن يرده إلى موضعه، وكيف ترى أن يصنع به؟ فتبسم وقال: لا أدري، وعن رجل له شجرة في أرضه وأغصانها في أرض غيره قال: يقلع أغصانها، قيل له: فإن صالحه على أن تكون الغلة بينهم، قال: لا أدري .

قال: وسألت أبا عبد الله عن شيء من أمر الورع فأطرق رأسه إلى الأرض، وسكت وكان ربما تغير وجهه يقول في بعض ما أسأله: أستغفر الله، قلت: فأي شيء تقول يا أبا عبد الله ؟ قال: أحب أن تعفيني، قلت: فإذا أعفيتك فمن أسأل؟ لقد أصبح الأمراء متحيرين، قال: هذا أمر شديد، وقال: قلت لأبي عبد الله : إن حسنا مولى ابن المبارك حكى عن سعيد بن عبد الغفار أنه قال لابن المبارك : ما تقول في رجلين دخلا على من تكره ناحيته، فأجازهما، فقبل واحد ولم يقبل الآخر، فخرج الذي قبل فاشترى منه الذي لم يقبل ما تقول؟ فسكت ابن المبارك ، فقال له سعيد : ما يسكتك؟ لم لا تجيبني؟ فقال: لو علمت أن الجواب خير لي لأجبتك، قال له سعيد : أليس أصلنا على الكراهة، قال ابن المبارك : نعم، فقال أبو عبد الله : ومن يقوى على هذا؟ قال له: فما تقول في رجل أجازه فاشترى دارا ترى أن أنزلها؟ فسكت ابن المبارك فقال: هذا أضيق ما أكره أن أجيبك، (فليقطع المفتي طمعه عن درك الحكم في جميع الصور، وقد سأل) عبد الله (بن المبارك) رحمه الله تعالى (صاحبه من البصرة بمعاملة قوم يعاملون السلاطين ، فقال: إن لم يعاملوا سوى السلاطين فلا تعاملهم، وإن عاملوا السلطان وغيره فعاملهم) . ولفظ القوت: وحدثنا عن محمد بن شيبة قال: كتب غلام ابن المبارك إليه: إنا نبايع أقواما يبايعون السلطان، فكتب إليه ابن المبارك : إذا كان الرجل يبايع السلطان وغيره فبايعه، وإذا قضاك شيئا فاقبض منه إلا أن يقضيك شيئا تعرفه بعينه حراما، فلا تأخذه، وإذا كان لا يبايع إلا السلطان فلا تبايعه اهـ. (وهذا يدل على المسامحة في الأقل، ويحتمل المسامحة في الأكثر أيضا) إذا لم يعرف فيه حرام بعينه (وبالجملة فلم ينقل [ ص: 86 ] عن الصحابة) رضي الله عنهم (أنهم كانوا يهجرون بالكلية معاملة قصاب) أي: جزار، (وخباز وتاجر لتعاطيه عقدا واحدا فاسدا، أو لمعاملة السلطان مرة) ، وفي نسخة: ولمعاملته السلطان مرة، (وتقدير ذلك فيه بعد) وتعسف، (والمسألة مشكلة في نفسها، فإن قلت: فقد روي عن علي ) رضي الله عنه (أنه رخص فيه وقال: خذ ما يعطيك السلطان، فإنما يعطيك من الحلال وما يأخذ من الحلال أكثر من الحرام) أي: فإن غالب أمواله من الغنائم والجبايات والخراجات، وهذا أكثر مما يصل إليه من الظلم والتعدي، (وسئل) عبد الله (ابن مسعود) رضي الله عنه (في ذلك فقال السائل: إن لي جارا لا أعلمه إلا خبيثا) ، وفي نسخة: جنديا (يدعونا) إلى طعامه فنجيبه لحق الجيرة (ونحتاج) أحيانا (فنستسلفه) أي: نطلب منه السلف، (فقال: إذا دعاك فأجبه) إلى دعوته، (وإن احتجت) إلى شيء (فاستسلفه) أي: خذ منه، (فإن لك المهنأ) مصدر ميمي، أي: من هنأ الشيء إذا تيسر من غير مشقة ولا عناء، (وعليه المأثم) ، أي: الإثم، (وأفتى سلمان) الفارسي رضي الله عنه (بمثل ذلك) حين سئل عنه. وسيأتي للمصنف ذلك في الباب الخامس عن الزبير بن عدي عنه .




الخدمات العلمية