الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وأما قول القائل : لا نتصدق إلا بالطيب ، فذلك إذا طلبنا الأجر لأنفسنا ، ونحن الآن نطلب الخلاص من المظلمة لا الأجر .

وترددنا ، بين التضييع وبين التصدق ورجحنا جانب التصدق على جانب التضييع .

وقول القائل : لا نرضى لغيرنا ما لا نرضاه لأنفسنا ، فهو كذلك ولكنه علينا حرام لاستغنائنا عنه وللفقير حلال إذ أحله دليل الشرع ، وإذا اقتضت المصلحة التحليل ، وجب التحليل وإذا حل فقد رضينا له الحلال ، ونقول إن له أن يتصدق على نفسه وعياله إذا كان فقيرا .

أما عياله وأهله ، فلا يخفى لأن الفقر لا ينتفي عنهم بكونهم من عياله وأهله ، بل هم أولى من يتصدق عليهم وأما هو فله أن يأخذ منه قدر حاجته لأنه أيضا فقير ، ولو تصدق به على فقير لجاز وكذا ، إذا كان هو الفقير ولنرسم في بيان هذا الأصل أيضا مسائل .

مسألة .

إذا وقع في يده مال من يد سلطان قال قوم : يرد إلى السلطان فهو أعلم بما تولاه فيقلده ما تقلده ، وهو خير من أن يتصدق به واختار المحاسبي ذلك وقال : كيف يتصدق به فلعل ، له مالكا معينا ، ولو جاز ذلك لجاز أن يسرق من السلطان ويتصدق به وقال قوم يتصدق به إذا علم أن السلطان لا يرده إلى المالك لأن ذلك إعانة للظالم وتكثير لأسباب ظلمه ، فالرد إليه تضييع لحق المالك والمختار أنه إذا علم من عادة السلطان أنه لا يرده إلى مالكه فيتصدق به عن مالكه ، فهو خير للمالك إن كان له مالك معين من أن يرد على السلطان لأنه ; ربما لا يكون له مالك معين ، ويكون حق المسلمين ، فرده على السلطان تضييع فإن كان له مالك معين فالرد على السلطان تضييع وإعانة للسلطان الظالم وتفويت لبركة دعاء الفقير على المالك وهذا ظاهر فإذا وقع في يده من ميراث ، ولم يتعد هو بالأخذ من السلطان فإنه شبيه باللقطة التي أيس عن معرفة صاحبها إذا لم يكن له أن يتصرف فيها بالتصدق عن المالك ، ولكن له أن يتملكها ثم وإن كان غنيا من حيث إنه اكتسبه من وجه مباح وهو الالتقاط وههنا لم يحصل المال من وجه مباح ، فيؤثر في منعه من التملك ولا يؤثر في المنع من التصدق .

التالي السابق


(وأما قول القائل: لا نتصدق إلا بالطيب ، فذلك) صحيح (إذا طلبنا الأجر لأنفسنا، ونحن الآن إنما نطلب الخلاص من المظلمة لا الأجر، ورددنا) وفي نسخة: ترددنا (بين التضييع وبين التصدق) ، واختيار أحدهما (ورجحنا جانب التصدق على جانب التضييع) ، ففرق بين من يطلب الأجر لنفسه، وبين من يطلب الخلاص لها من مظلمة، فقولهم المذكور محمول على الحالة الأولى (وقول القائل: لا نرضى لغيرنا إلا ما نرضاه لأنفسنا، فهو كذلك) صحيح، (ولكنه علينا حرام لاستغنائنا عنه) ، وعدم احتياجنا إليه، (وللفقير حلال إذ أحله دليل الشرع، وإذا اقتضت المصلحة) الشرعية (التحليل، وجب التحليل) رعاية للمصلحة وهو المناسب المرسل، (وإذا حل) له أخذه، (فقد رضينا به بالحلال، ونقول) زيادة على ذلك (له أن يتصدق على نفسه وعياله ) منه (إذا كان فقيرا أما عياله وأهله، فلا يخفى) حاله; (لأن الفقر لا ينتفي عنهم بكونهم من عياله وأهله، بل) لوصف ثابت فيهم، وعلى هذا (هم أولى من يتصدق عليهم) من غيرهم، فالأقربون أولى بالمعروف، (وأما هو) بنفسه، (فله أن يأخذ منه قدر حاجته) الداعية; (لأنه أيضا فقير، ولو تصدق به على فقير لجاز، فهكذا إذا كان هو فقيرا) ، بل إذا رأى تقديم نفسه فيه مصلحة يكون الأولى، (ولنرسم في بيان هذا الأصل أيضا مسائل) ، لتكون متممات له جامعات لشواذه، (مسألة إذا وقع في يده مال من سلطان) فاختلف فيه (فقال قوم: يرد) ذلك المال (إلى السلطان) الذي أخذه منه، (فهو أعلم بما تولاه فليقلده ما تقلده، وهو خير من أن يتصدق به) على فقير، (واختار) الحارث (المحاسبي) رحمه الله تعالى (ذلك) ، ومن تبعه، (وقال:) في توجيهه (كيف يتصدق به، ولعل له مالكا معينا، ولو جاز ذلك لجاز أن يسرق من) مال (السلطان ويتصدق به) ، ولا قائل بذلك، (وقال قوم) آخرون: (بل يتصدق به إذا علم أن السلطان لا يرده إلى المالك) ، هذا إذا علم أن له مالكا معينا; (لأن ذلك إعانة للظالم وتكثير لأسباب ظلمه، فالرد إليه تضييع لحق المالك) ، وهو غير جائز، (والمختار أنه إذا علم من عادة السلطان أنه لا يرده إلى مالكه فيتصدق به عن المالك، فهو خير للمالك إن كان له مالك معين من أن يرد على السلطان; ولأنه ربما لا يكون له مالك معين، ويكون لحق المسلمين، فرده على السلطان تضييع) له (وإعادته للسلطان الظالم تفويت لدعاء الفقير) للمالك، وفي نسخة: وإعانة للسلطان على ظلمه، وتفويت لدعاء الفقير على المالك، (وهذا ظاهر [ ص: 105 ] فإذا وقع في يده مال من ميراث، ولم يتعد هو بالأخذ من يد السلطان فإنه شبيه باللقطة التي أيس من معرفة صاحبها إذ لم يكن له أن يتصرف فيها بالتصرف عن الملاك، ولكن له أن يتملكها) أي: تلك اللقطة، وفي نسخة: أن يتملكه، أي: المال، (ثم وإن كان غنيا من حيث إنه اكتسبها) ، وفي نسخة: اكتسبه، (بجهة مباح وههنا لم يحصل المال بجهة مباح، فيؤثر في منعه من التملك ولا يؤثر في المنع من التصرف) ، اعلم أنهم اختلفوا في اللقطة هل تملك بعد الحول والتعريف ، فقال مالك والشافعي : يملك جميع اللقطات سواء كان غنيا أو فقيرا، وسواء كانت اللقطة أثمانا أو عروضا أو ضالة غنم، وقال مالك : هو بالخيار بين أن يتركها في يده أمانة وإن تلفت، فلا ضمان عليه، وبين أن يتصدق بها بشرط الضمان، وبين أن يملكها وتصير دينا في ذمته، ويمكن له ملكها إلا في ضالة الغنم; حيث الخوف، فإن شاء تركها، وإن شاء أكلها، ولا ضمان عليه في أظهر الروايتين، وقال أبو حنيفة : لا يملك شيئا من اللقطات ولا ينتفع بها إذا كان غنيا، فإن كان فقيرا جاز له الانتفاع بها بشرط الضمان، فأما الغني فإنه يتصدق بها بشرط الضمان .

وعن أحمد روايتان أظهرهما: إن كانت أثمانا تملكها بغير اختياره جاز له الانتفاع بها غنيا كان أو فقيرا، فإن كانت عروضا أو حليا لا يملكها إلا باختياره لا بغير اختياره لم يجز له الانتفاع بها غنيا كان أو فقيرا، والأخرى لا يملكها إلا أن يتصدق بها، فإن جاء صاحبها بعد الحول خير بين الأخذ وبين أن يترك عليه مثلها .




الخدمات العلمية