الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ومن ذلك أن عمر رضي الله عنه لما ولي الخلافة له زوجة يحبها فطلقها خفية أن تشير عليه بشفاعة في باطل فيعطيها ويطلب رضاها وهذا من ترك مالا بأس به مخافة مما به البأس ، أي : مخافة من أن يفضي إليه ، وأكثر المباحات داعية إلى المحظورات حتى استكثار الأكل واستعمال الطيب للمتعزب فإنه يحرك الشهوة ثم الشهوة تدعو إلى الفكر ، والفكر يدعو إلى النظر والنظر يدعو إلى غيره وكذلك النظر إلى دور الأغنياء وتجملهم مباح في نفسه ولكن يهيج الحرص ويدعو إلى طلب مثله ويلزم منه ارتكاب ما لا يحل في تحصيله وهكذا المباحات كلها إذا لم تؤخذ بقدر الحاجة في وقت الحاجة مع التحرز من غوائها بالمعرفة أولا ، ثم ثانيا ، فقلما تخلو عاقبتها عن خطر وكذا كل ما أخذ بالشهوة فقلما يخلو عن خطر حتى كره أحمد بن حنبل تجصيص الحيطان وقال : أما تجصيص الأرض فيمنع التراب ، وأما تجصيص الحيطان فزينة لا فائدة فيه حتى أنكر تجصيص المساجد وتزيينها واستدل بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل أن يكحل المسجد فقال لا عريش كعريش : موسى ، وإنما هو شيء مثل الكحل يطلى به ، فلم يرخص رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه وكره السلف الثوب الرقيق وقالوا : من رق ثوبه رق دينه وكل ذلك خوفا من سريان اتباع الشهوات في المباحات إلى غيرها ، فإن المحظور والمباح تشتهيهما النفس بشهوة واحدة وإذا تعودت الشهوة المسامحة استرسلت فاقتضى خوف التقوى الورع عن هذا كله فكل حلال انفك عن مثل هذه المخافة فهو الحلال الطيب في الدرجة الثالثة ، وهو كل ما لا يخاف أداؤه إلى معصية البتة .

التالي السابق


(ومن ذلك أن عمر) بن الخطاب (رضي الله عنه لما ولي) الخلافة (وكانت له زوجة يحبها) ، ويميل إليها وهي غير عاتكة بنت زيد ، (فطلقها خيفة أن تشير عليه بشفاعة في باطل فيطيعها) ، ولا يخالفها لمحبته لها، (ويطلب رضاها) بتمشية شفاعتها، (وهذا من ترك ما لا بأس به مخافة ما به بأس ، أي: مخافة أن يفضي إليه، وأكثر المباحات) الشرعية (داعية إلى المحظورات حتى استكثار الأكل) ، فإنه مباح شرعا لكنه يفضي إلى أشياء كثيرة هي محظورة شرعا، (واستعمال الطيب) ، أي طيب كان (للمتعزب) ، وهو الذي ليس له أهل، (فإنه) مع كونه مباحا (يحرك الشهوة) النفسية، (ثم الشهوة) إذا تحكمت (تدعو إلى الفكر، والفكر) يدعو (إلى النظر) إلى ما لا يحل، (والنظر) يدعو (إلى غيره) من المفاسد، وفي هذا يقولون: من أدار ناظره أتعب خاطره، (وكذلك النظر إلى دور الأغنياء وتجملهم) في مفارشهم وملابسهم ومراكيبهم وما فيها من الغلمان وهيئاتهم المتنوعة، (مباح في نفسه) للداخل إليها، (ولكن يهيج الحرص) ، ويثيره (ويدعو إلى مثله) ، ولذا كره الدخول عليهم، (و) قالوا: إنه (يلزم منه ارتكاب ما لا يحل في تحصيله) إذ لا يتم مثله إلا بارتكاب محظورات شرعية، فالأولى قطع مباديه بعدم الدخول، ثم بعدم النظر، (وهكذا المباحات كلها إذا لم تؤخذ بقدر الحاجة) الضرورية، (وفي وقت الحاجة مع التحرز من غوائها) ، والتوقي من مهلكاتها (بالمعرفة أولا، ثم بالحذر ثانيا، فقلما تخلو عاقبتها عن خطر) ، فإذا لم يعرف أولا دعاه إلى ما فيه هلاكه، وهو لا يدري ثم إذا عرفه، ولم يحذر منه، بل استرسل مع نفسه كانت المصيبة أعظم، (وكذلك ما أخذ بالشره) وهو بالتحريك: شدة الحرص، (فقلما يخلو عن خطر حتى كره أحمد بن حنبل ) رحمه الله تعالى (تجصيص الحيطان) أي: تطليتها بالجص بكسر الجيم وهو النورة، قال صاحب البارع: قال أبو حاتم : والعامة تقول بفتح الجيم، والصواب الكسر، وهو كلام العرب، وقال ابن السكيت نحوه، وهو معرب كبج; لأن الجيم والصاد لا يجتمعان في العربية، (فقال: أما تجصيص الأرض فيمنع التراب، وأما تجصيص الحائط فزينة لا فائدة فيه) .

ولفظ القوت: المروذي قال: سألت أبا عبد الله عن الرجل يجصص فقال: أما أرض البيوت فتوقيهم من التراب، وكره تجصيص الحيطان حتى أنكر تجصيص المسجد وتزيينه، (واستدل بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أن يكحل) المسجد، (فقال: عريش مثل عريش موسى ، وإنما هو شيء مثل الكحل يطلى به، فلم يرخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، ولفظ القوت: قال المروذي : وذكرت لأبي عبد الله مسجدا قد بني وأنفق عليه مال كثير، فاسترجع وأنكر ما قلت، وقال: قد سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يكحل المسجد فقال: لا، عريش كعريش موسى ، قال أبو عبد الله : إنما هو شيء من الكحل يطلى، فلم يرخص النبي صلى الله عليه وسلم اهـ .

قال العراقي : رواه الدارقطني في الأفراد من حديث أبي الدرداء ، وقال: غريب اهـ .

قلت: ورواه المخلص في فوائده، والديلمي وابن النجار من حديث أبي الدرداء بلفظ: عريشا كعريش موسى ثمام وخشيبات ، والأمر أعجل من ذلك، قال الديلمي في الفردوس: سئل الحسن : ما كان عريش موسى ؟ قال: كان إذا رفع يده بلغت السقف .

وروى الطبراني في الكبير من حديث عبادة بن الصامت ليس في رغبة موسى عريش كعريش موسى ، وروى البيهقي من حديث سالم بن عطية مرسلا: عريش كعريش موسى [ ص: 29 ] (وكره السلف الثوب الرقيق) أي: لبسه، سواء كان من كتان أو قطن، (وقالوا: من رق ثوبه رق دينه) ، والرقة كالدقة، لكن الرقة تقال اعتبارا لمراعاة جوانب الشيء، والدقة اعتبارا بعمقه، فمتى كانت الرقة في جسم يضادها الصفاقة نحو: ثوب رقيق وصفيق، وكون لبس الثوب الرقيق يرقق الدين أي: يضعفه; لأن الثوب كلما رق غلا ثمنه، فإذا أراد الدين أن يشتريه احتاج إلى مال كثير، وأنى له ذلك مع ضيق المكاسب وندرة الحلال، فإن استرسل نفسه في شرائه وقع في شبهات بل في الحرام، (وكل ذلك خوفا من سريان اتباع الشهوات في المباحات إلى غيرها، فإن المحظور والمباح يشتهيان بشهوة واحدة) ، فلا يدرى أهو محظور أم مباح؟ (فإذا عودت الشهوة المسامحة) ولم تقمع (استرسلت) وجمحت، فلا يمكن إذلالها إلا بصعوبة، (فاقتضى خوف التقوى الورع من هذا) كله، (فكل حلال انفك عن مثل هذه المخافة فهو الحلال الطيب في الدرجة الثالثة، وهو كل ما لا يخاف أداؤه إلى معصية البتة) ، وهو معنى الحديث المتقدم: لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما به بأس لما لا بأس به .




الخدمات العلمية