القسم الثالث : فالذي يأخذ الأحكام من الصور قد يظن أن نسبة غير المحصور إلى غير المحصور كنسبة المحصور إلى المحصور ، وقد حكمنا ثم بالتحريم فلنحكم هنا به والذي نختاره خلاف ذلك وهو أنه لا يحرم بهذا الاختلاط أن يتناول شيء بعينه احتمل أنه حرام وأنه حلال إلا أن يقترن بتلك العين علامة تدل على أنه من الحرام ، فإن لم يكن في العين علامة تدل على أنه من الحرام فتركه ورع وأخذه حلال لا يفسق به آكله . أن يختلط حرام لا يحصر بحلال لا يحصر كحكم الأموال في زماننا هذا
ومن العلامات أن يأخذه من يد سلطان ظالم إلى غير ذلك من العلامات التي سيأتي ذكرها ويدل عليه الأثر والقياس فأما ، الأثر .
فما علم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين بعده إذ كانت أثمان الخمور ودراهم الربا من أيدي أهل الذمة مختلطة بالأموال ، وكذا غلول الأموال وكذا غلول الغنيمة ومن الوقت الذي نهى صلى الله عليه وسلم عن الربا إذ قال : . أول ربا أضعه ربا العباس
ما ترك الناس الربا بأجمعهم كما لم يتركوا شرب الخمور وسائر المعاصي حتى روي أن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم باع الخمر ، فقال رضي الله عنه : عمر
لعن الله فلانا هو أول من سن بيع الخمر إذ لم يكن قد فهم أن . تحريم الخمر تحريم لثمنها
وقال صلى الله عليه وسلم : . إن فلانا يجر في النار عباءة قد غلها
وقتل رجل ففتشوا متاعه فوجدوا فيه خرزات من خرز اليهود لا تساوي درهمين قد غلها .
وكذلك أدرك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمراء الظلمة ولم يمتنع أحد منهم عن الشراء والبيع في السوق بسبب نهب المدينة وقد نهبها أصحاب يزيد ثلاثة أيام وكان من يمتنع من تلك الأموال مشارا إليه في الورع ، والأكثرون لم يمتنعوا مع الأخلاط وكثرة الأموال المنهوبة في أيام الظلمة .
ومن أوجب ما لم يوجبه السلف الصالح وزعم أنه تفطن من الشر ما لم يتفطنوا له فهو موسوس مختل العقل ولو جاز أن يزاد عليهم في أمثال هذا لجاز مخالفتهم في مسائل لا مستند فيها سوى اتفاقهم كقولهم إن الجدة كالأم في التحريم وابن الابن كالابن وشعر الخنزير وشحمه كاللحم المذكور تحريمه في القرآن والربا جار فيما عدا الأشياء الستة وذلك محال فإنهم أولى بفهم الشرع من غيرهم وأما القياس فهو أنه لو فتح هذا الباب لانسد باب جميع التصرفات وخرب العالم إذ الفسق يغلب على الناس ويتساهلون بسببه في شروط الشرع في العقود ويؤدي ذلك لا محالة إلى الاختلاط .
فإن قيل قد : نقلتم أنه صلى الله عليه وسلم وهو في اختلاط غير المحصور قلنا يحمل : ذلك على التنزه والورع ، أو نقول : الضب شكل غريب ربما يدل على أنه من المسخ ، فهي دلالة في عين المتناول . امتنع من الضب ، وقال : أخشى أن يكون مما مسخه الله
فإن قيل هذا : معلوم في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمان الصحابة بسبب الربا والسرقة والنهب وغلول الغنيمة وغيرها ، ولكن كانت هي الأقل بالإضافة إلى الحلال فما تقول في زماننا وقد صار الحرام أكثر ما في أيدي الناس لفساد المعاملات وإهمال شروطها وكثرة الربا وأموال السلاطين الظلمة فمن أخذ مالا لم يشهد عليه علامة معينة في عينه للتحريم فهل هو حرام أم لا .
فأقول ليس ذلك حراما ، وإنما الورع تركه ، وهذا الورع أهم من الورع إذا كان قليلا .
ولكن الجواب عن هذا أن قول القائل : أكثر الأموال حرام في زماننا ، غلط محض ومنشؤه الغفلة عن الفرق بين الكثير والأكثر ، فأكثر الناس بل أكثر الفقهاء يظنون أن ما ليس بنادر فهو الأكثر ويتوهمون أنهما قسمان متقابلان ليس بينهما ثالث ، وليس كذلك بل الأقسام ثلاثة قليل وهو النادر وكثير وأكثر ، ومثاله أن الخنثى فيما بين الخلق نادر وإذا أضيف إليه المريض وجد كثيرا ، وكذا السفر حتى يقال المرض والسفر : من الأعذار العامة والاستحاضة من الأعذار النادرة ومعلوم أن المرض ليس بنادر وليس بالأكثر أيضا بل هو كثير ، والفقيه إذا تساهل وقال : المرض والسفر غالب وهو عذر عام أراد به أنه ليس بنادر فإن لم يرد هذا فهو غلط والصحيح والمقيم هو الأكثر والمسافر والمريض كثير ، والمستحاضة والخنثى نادر ، فإذا فهم هذا فنقول : قول القائل : الحرام أكثر باطل لأن مستند هذا القائل إما أن يكون كثرة الظلمة والجندية أو كثرة الربا والمعاملات الفاسدة أو كثرة الأيدي التي تكررت من أول الإسلام إلى زماننا هذا على أصول الأموال الموجودة اليوم ، أما المستند الأول فباطل ، فإن الظالم كثير وليس هو بالأكثر فإنهم الجندية إذ لا يظلم إلا ذو غلبة وشوكة وهم إذا أضيفوا إلى كل العالم لم يبلغوا عشر عشيرهم فكل سلطان يجتمع عليه من الجنود مائة ألف مثلا فيملك إقليما يجمع ألف ألف وزيادة ولعل بلدة واحدة من بلاد مملكته يزيد عددها على جميع عسكره ولو كان عدد السلاطين أكثر من عدد الرعايا لهلك الكل إذ كان يجب على كل واحد من الرعية أن يقوم بعشرة منهم مثلا مع تنعمهم في المعيشة ولا يتصور ذلك ، بل كفاية الواحد كان منهم تجمع من ألف من الرعية وزيادة وكذا القول في السراق فإن البلدة الكبيرة تشتمل منهم على قدر قليل .