الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وقد كره السلف بيع السيف في وقت الفتنة خيفة أن يشتريه ظالم فهذا ورع فوق الأول ، والكراهية فيه أخف ويليه ما هو مبالغة ، ويكاد يلتحق بالوسواس ، وهو قول جماعة أنه لا تجوز معاملة الفلاحين بآلات الحارث لأنهم يستعينون بها على الحراثة ويبيعون الطعام من الظلمة ولا يباع منهم البقر والفدان وآلات الحرث وهذا ورع الوسوسة إذ ينجر إلى أن لا يباع من الفلاح طعام ; لأنه يتقوى به على الحراثة ولا يسقى من الماء العام لذلك وينتهي هذا حد التنطع المنهي عنه وكل متوجه إلى شيء على قصد خير لا بد وأن يسرف إن لم يذمه العلم المحقق وربما يقدم على ما يكون بدعة في الدين ليستضر الناس بعده بها وهو يظن أنه مشغول بالخير ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : فضل العالم على العابد كفضلي على أدنى رجل من أصحابي والمتنطعون هم الذين يخشى عليهم أن يكونوا ممن قيل فيهم الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، وبالجملة لا ينبغي للإنسان أن يشتغل بدقائق الورع إلا بحضرة عالم متقن فإنه إذا جاوز ما رسم وتصرف بذهنه من غير سماع كان ما يفسده أكثر مما يصلحه ، وقد روي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه أحرق كرمه خوفا من أن يباع العنب ممن يتخذه خمرا ، وهذا لا أعرف له وجها إن لم يعرف هو سببا خاصا يوجب الإحراق إذا ما أحرق كرمه ونخله من كان أرفع قدرا منه من الصحابة .

ولو جاز هذا لجاز قطع الذكر خيفة من الزنا وقطع اللسان خيفة من الكذب ، إلى غير ذلك من الإتلافات .

وأما المقدمات فلتطرق المعصية إليها ثلاث درجات : الدرجة العليا التي يشتد الكراهة فيها ما بقي أثره في المتناول كالأكل من شاة علفت بعلف مغصوب أو رعت في مرعى حرام فإن ذلك معصية ، وقد كان سببا لبقائها وربما يكون الباقي من دمها ولحمها وأجزائها من ذلك العلف وهذا الورع مهم وإن لم يكن واجبا ونقل ذلك عن جماعة من السلف .

وكان لأبي عبد الله الطوسي التروغندي شاة يحملها على رقبته كل يوم إلى الصحراء ويرعاها وهو يصلي ، وكان يأكل من لبنها فغفل عنها ساعة فتناولت من ورق كرم على طرف بستان فتركها في البستان ولم يستحل أخذها .

فإن قيل فقد روي عن عبد الله بن عمر وعبيد الله أنهما اشتريا إبلا فبعثاها إلى الحمى فرعته إبلهما حتى سمنت ، فقال عمر رضي الله عنه أرعيتماها في الحمى فقالا: نعم فشاطرهما .

وهذا يدل على أنه رأى اللحم الحاصل من العلف لصاحب العلف ، فليوجب هذا تحريما .

قلنا : ليس كذلك ، فإن العلف يفسد بالأكل واللحم خلق جديد ، وليس عين العلف ، فلا شركة لصاحب العلف شرعا ولكن عمر غرمهما قيمة الكلأ ورأى ذلك مثل شطر الإبل ، فأخذ الشطر بالاجتهاد كما شاطر سعد بن أبي وقاص ماله لما أن قدم من الكوفة وكذلك شاطر أبا هريرة رضي الله عنه إذ رأى أن كل ذلك لا يستحقه العامل ، ورأى شطر ذلك كافيا على حق عملهم وقدره ، بالشطر اجتهادا .

الرتبة ، الوسطى ما نقل عن بشر بن الحارث من امتناعه عن الماء المساق في نهر احتفره الظلمة لأن النهر موصل إليه ، وقد عصى الله بحفره .

وامتنع آخر عن عنب كرم يسقى بماء يجري في نهر حفر ظلما وهو أرفع منه وأبلغ في الورع .

وامتنع آخر من الشرب من مصانع السلاطين في الطرق .

وأعلى من ذلك امتناع ذي النون من طعام حلال أوصل إليه على يد سجان وقوله إنه جاءني على يد ظالم ودرجات هذه الرتب لا تنحصر .

الرتبة الثالثة ، وهي قريب من الوسواس والمبالغة أن يمتنع من حلال وصل على يد رجل عصى الله بالزنا أو القذف وليس هو كما لو عصى بأكل الحرام ، فإن الموصل قوته الحاصلة من الغذاء الحرام والزنا والقذف لا يوجب قوة يستعان بها على الحمل بل الامتناع من أخذ حلال وصل على يد كافر وسواس بخلاف أكل الحرام إذ الكفر لا يتعلق بحمل الطعام وينجر هذا إلى أن لا يؤخذ من يد من عصى الله ولو بغيبة أو كذبة وهو غاية التنطع والإسراف فليضبط ما عرف من ورع ذي النون وبشر بالمعصية في السبب الموصل كالنهر ، وقوة اليد المستفادة بالغذاء الحرام .

التالي السابق


(وقد كره السلف بيع السيف في وقت الفتنة خيفة من أن يشتريه ظالم) ، فيقتل به مظلوما، (فهذا ورع فوق الأول، والكراهية فيه أخف) بالنسبة إلى ما سبق، (ويليه ما هو مبالغة، ويكاد يلتحق بالوسواس، وهو قول جماعة من الناس أنه لا يجوز معاملة الفلاحين) ، وهم أهل السواد (بآلة الحرث) أي: الزراعة قالوا: (لأنهم يستعينون بذلك على الفلاحة) أي: شق الأرض، (والحرث) أي: وضع الحب فيها، (ويبيعون الطعام) المتحصل منها (من الظلمة) والأجناد الجائرين، (فلا يباع منهم البقر والفدان) وهو آلة الحرث، ويطلق على الثورين يحرث عليهما في قران، (وهذا ورع الوسوسة) ، أداهم ورعهم إلى هذا الوسواس .

(إذ ينجر إلى أن لا يباع من الفلاح طعام; لأنه يتقوى به على الحراثة) ، وما تحصل من الحراثة يبيعها من الظلمة، (ولا يسقى من الماء العام لذلك) ، فهذا غلو وتجاوز، (وينتهي هذا إلى حد التنطع المنهي عنه) بقوله صلى الله عليه وسلم: هلك المتنطعون ، (وكل متوجه إلى شيء على قصد خير لا بد وأن يسرف) أي: يقع في حد الإسراف (إن لم يزمه) أي: يمنعه (العلم المحقق) عن كشف وبرهان، (وربما يقدم على ما يكون بدعة) أحدثت (في الدين يستضر الناس بعده بها) ، ويقلدونه فيما فعله (وهو يظن) في نفسه (أنه مشغول بالخير) ، وليس كذلك، (ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: فضل العالم على العابد كفضلي على أدنى رجل من أصحابي ) رواه الحارث بن أبي أسامة نحوه من حديث أبي سعيد ، وقد تقدم الكلام عليه في كتاب العلم، (والمتنطعون هم الذين يخشى عليهم أن يكونوا ممن قيل فيهم) في الكتاب العزيز ( الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، وبالجملة لا ينبغي أن يشتغل الإنسان بدقائق الورع إلا بحضرة عالم) كامل (متقن) في الأصول والفروع متضلع من المعارف الربانية مرشد محقق، (فإنه إذا جاوز ما رسم له) في حد من الحدود المتعلقة به، (وتصرف بذهنه) أي: بما تخيله فيه (من غير سماع) من مرشد كامل، (كان ما يفسده أكثر [ ص: 59 ] مما يصلحه، وقد روي عن سعد بن أبي وقاص) الزهري أحد العشرة رضي الله عنه، وقد تقدمت ترجمته (أنه أحرق كرمه) بالنار (خوفا من أن يباع العنب ممن يتخذه خمرا، وهذا لا أعرف له وجها إن لم يعرف هو سببا خاصا يوجب الإحراق) ، ولعل ذلك السبب الخاص أن الكرم المذكور كان قد تعود الخمار بأخذ عنبه في كل سنة، فرأى المصلحة في إحراقه، (إذ ما أحرق نخيله وكرمه من كان أرفع قدرا منه من الصحابة) رضوان الله عليهم، (ولو جاز هذا) على عمومه (لجاز قطع الذكر خيفة من) الوقوع في (الزنا و) لجاز (قطع اللسان خيفة من) الوقوع في (الكذب، إلى غير ذلك من الآفات) ، ومن المعلوم أن ذلك غير جائز، (وأما المقدمات فلتطرق المعصية إليها أيضا ثلاث درجات: الدرجة العليا التي تشتد الكراهة فيها) هو (ما بقي أثره في المتناول كالأكل من) لحم ( شاة علفت بعلف مغصوب ) أو سقيت بماء مغصوب، (أو رعت في مرعى حرام) أو حلال وكان مغصوبا (فإن ذلك معصية، وقد كان) العلف المذكور (سببا لبقائها) في قيام البنية، (وربما يكون الباقي من لحمها ودمها وأجزائها من ذلك العلف) أو المرعى (وهذا الورع مهم) في نفس الأمر، (وإن لم يكن واجبا) في فتوى الظاهر، (وفعل ذلك جماعة من السلف) رحمهم الله تعالى، (وكان لأبي عبد الله الطوسي) التروغندي، وقد وجد في بعض النسخ هكذا وتروغند من قرى طوس ، وقيل: هو أبو محمد عبد الله بن هاشم بن جبان الطوسي الراذكاني ، وراذكان قرب تروغند فتصحف على النساخ، وهو ثقة مات سنة 288 روى له مسلم . (شاة يحملها كل يوم على رقبته إلى الصحراء ويرعاها) في الكلأ المباح (وهو يصلي، وكان يأكل من لبنها) أي: كان قوته من ذلك، (فغفل عنها ساعة) في يوم من الأيام، (فتناولت ورق كرم على طريق بستان) لبعضهم، (فتركها في البستان ولم يستحل أخذها) ورعا واحتياطا، (فإن قيل فقد روي عن عبد الله بن عمر) بن الخطاب (و) أخيه (عبيد الله) بن عمر، وهو أصغر منه، وقتل مع معاوية بصفين ، وليست له رواية في الكتب الستة .

(أنهما اشتريا إبلا فبعثا بها إلى الحمى ) أي: حمى النقيع بالنون والقاف، وهي الأرض التي كان حماها أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه لإبل الصدقة خاصة، (فرعت إبلهما) من ذلك الحمى (حتى سمنت، فقال عمر رضي الله عنه) لهما: قد (رعيتما) إبلكما (فى الحمى) ؟ قالا: نعم، (فشاطرهما) أي: أخذ منهما شطرا، (فهذا يدل على أنه رأى اللحم الحاصل من العلف لصاحب العلف، فليوجب هذا تحريما، قلنا: ليس كذلك، فإن العلف يفسد بالأكل واللحم خلق جديد، وليس عين) ذلك (العلف، فلا شركة لصاحب العلف شرعا) ، فإنه أمر موهوم، ولا يصح الاشتراك إلا في قدر معين معلوم، (ولكن غرمهما قيمة الكلأ) ، أي: ألزمهما إياها، (ورأى ذلك مثل شطر الإبل، فأخذ الشطر بالاجتهاد كما شاطر سعد بن أبي وقاص ) رضي الله عنه، (لما أن قدم من الكوفة ) ، وكان قد أمره عليها ثم عزله سنة إحدى وعشرين، ثم أعاده ثانيا بعد عمار بن ياسر ، ثم عزله وولى المغيرة بن شعبة ، وقد ولاه عثمان أيضا، (وكذا شاطر أبا هريرة رضي الله عنه) لما قدم من البحرين (إذ رأى أن كل ذلك لا يستحقه العامل، ورأى شطر ذلك كافيا على حق عملهم، وقدر بالشطر اجتهادا، والرتبة) الثانية وهي (الوسطى ما نقل عن) أبي نصر (بشر) بن الحارث الحافي رحمه الله تعالى، (من امتناعه عن) شرب ( ماء يساق في نهر احتفره الظلمة ) أهل الجور; (لأن النهر موصل) ذلك الماء (إليه، وقد عصى الله تعالى بحفره) إما أنه بالغصب أو بصرف مال حرام عليه، (وامتناع بعضهم من) تناول (عنب كرم يسقى بماء جرى في نهر حفر ظلما) ، وقد نقل ذلك عن بشر أيضا [ ص: 60 ] والمراد بذلك النهر نهر طاهر في غربي بغداد كما تقدم، (وهو أدق مما قبله وأبلغ) في الورع، (وامتنع آخر من الشرب من) ماء حبس في (مصانع السلاطين في الطرق) أي: طريق مكة ، وهذا أيضا قد تقدم، (وأعلى من ذلك امتناع ذي النون المصري ) رحمه الله تعالى (من) أكل (طعام حلال) من امرأة صالحة بعثت له من كسب يدها; لأنه (أوصل إليه) ذلك الطعام (على يد سجان) ، وذلك لأنه كان قد حبس، (وقوله) في الاعتذار عن امتناعه لما سئل عنه (أنه جاءني على طبق ظالم) يعني يد السجان، (ودرجات هذه الرتبة لا تنحصر) لكثرتها، وليس من قوة البشر حصرها، (المرتبة الثالثة، وهي قريبة من الوسواس والمبالغة) ، وهو (أن يمتنع من حلال وصل على يد رجل ظالم عصى الله) تعالى (بالقذف) لمحصنة أو (الزنا) ، أو غير ذلك .

(وليس هذا كما لو عصى بأكل الحرام، فإن الموصل) لذلك هو (قوته الحاصلة من الغذاء الحرام والزنا أو القذف) ، كل منهما (لا يوجب قوة يستعان بها على الحمل) حتى تؤثر فيه، (بل الامتناع من أخذ حلال وصل على يد كافر وسواس) محض (بخلاف آكل الحرام إذ الكفر لا يتعلق بحمل الطعام وينجر هذا إلى أن لا يؤخذ) أيضا (من يد من عصى الله تعالى) مرة من الزمان، (ولو بغيبة أو كذبة) أو نحو ذلك، (وهو غاية التنطع والإسراف) المنهي عنهما (فليضبط ما عرف من ورع ذي النون وبشر ) رحمهما الله تعالى (بالمعصية في السبب الموصل كالنهر، وقوة اليد المستفادة بالغذاء الحرام) ، وما عدا ذلك تجاوز عن الحد .




الخدمات العلمية