القسم الثالث . تعارض الأشباه في الصفات التي تناط بها الأحكام
مثاله أن يوصى بمال للفقهاء فيعلم أن الفاضل في الفقه داخل فيه وأن الذي ابتدأ التعلم من يوم أو شهر لا يدخل فيه وبينهما درجات لا تحصى يقع الشك فيها ، فالمفتي يفتي بحسب الظن والورع الاجتناب وهذا أغمض مثارات الشبهة ، فإن فيها صورا يتحير المفتي فيها تحيرا لازما لا حيلة له فيه إذ يكون المتصف بصفة في درجة متوسطة بين الدرجتين المتقابلتين لا يظهر له ميله إلى أحدهما .
وكذلك الصدقات المصروفة إلى المحتاجين ، فإن مما لا شيء له معلوم أنه محتاج ، ومن له مال كثير معلوم أنه غني ويتصدى ، بينهما مسائل غامضة كمن له دار وأثاث وثياب وكتب فإن قدر الحاجة منه لا يمنع من الصرف إليه والفاضل يمنع والحاجة ليست محدودة وإنما تدرك بالتقريب ويتعدى منه النظر في مقدار سعة الدار وأبنيتها ومقدار قيمتها لكونها في وسط البلد ووقوع الاكتفاء بدار دونها وكذلك في نوع أثاث البيت إذا كان من الصفر لا من الخزف ، وكذلك في عددها ، وكذلك في قيمتهما ، وكذلك فيما لا يحتاج إليه كل يوم ، وما يحتاج إليه كل سنة من آلات الشتاء وما لا يحتاج إليه إلا في سنين ، وشيء من ذلك لا حد له .
والوجه في هذا ما قاله عليه السلام : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك .
كل ذلك في محل الريب إن توقف المفتي فلا وجه إلا التوقف وهو . ، أهم مواقع الورع
وكذلك ما يجب بقدر الكفاية من نفقة الأقارب وكسوة الزوجات وكفاية الفقهاء والعلماء على بيت المال إذ فيه طرفان يعلم أن أحدهما قاصر ، وأن الآخر زائد ، وبينهما أمور متشابهة تختلف باختلاف الشخص والحال .
والمطلع على الحاجات هو الله تعالى وليس للبشر وقوف على حدودها ، فما دون الرطل المكي في اليوم قاصر عن كفاية الرجل الضخم وما فوق ثلاثة أرطال زائد على الكفاية وما بينهما لا يتحقق له حد .
فليدع الورع ما يريبه وهذا جار في كل حكم نيط بسبب يعرف ذلك بلفظ العرب إذ العرب وسائر أهل اللغات لم يقدروا متضمنات اللغات بحدود محدودة تنقطع أطرافها عن مقابلاتها كلفظ الستة فإنه ، لا يحتمل ما دونها وما فوقها من الأعداد وسائر ألفاظ الحساب والتقديرات ، فليست الألفاظ اللغوية كذلك ، فلا لفظ في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ويتطرق الشك إلى أوساط في مقتضياتها تدور بين أطراف متقابلة فتعظم الحاجة إلى هذا الفن في الوصايا والأوقاف ، على الصوفية مثلا مما يصح ومن الداخل تحت موجب هذا اللفظ هذا من الغوامض فكذلك سائر الألفاظ .
وسنشير إلى مقتضى لفظ الصوفي على الخصوص ليعلم به طريق التصرف في الألفاظ ، وإلا فلا مطمع في استيفائها فهذه اشتباهات تثور من علامات متعارضة تجذب إلى طرفين متقابلين ، وكل ذلك من الشبهات يجب اجتنابها إذا لم يترجح جانب الحل بدلالة تغلب على الظن ، أو باستصحاب بموجب قوله صلى الله عليه وسلم : " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " وبموجب سائر الأدلة التي سبق ذكرها .
فهذه مثارات الشبهات وبعضها أشد من بعض ، ولو تظاهرت شبهات شتى على شيء واحد كان الأمر أغلظ مثل أن يأخذ طعاما مختلفا فيه عوضا عن عنب باعه من خمار بعد النداء يوم الجمعة والبائع قد خالط ماله حرام وليس هو أكثر ماله ، ولكنه صار مشتبها به فقد يؤدي ترادف الشبهات إلى أن يشتد الأمر في اقتحامها فهذه مراتب عرفنا طريق الوقوف عليها وليس في قوة البشر حصرها فما اتضح من هذا الشرح أخذ به وما التبس فليجتنب ، فإن الإثم حزاز القلب .
وحيث قضينا باستفتاء القلب أردنا به حيث أباح المفتي أما حيث حرمه فيجب الامتناع .
ثم لا يعول على كل قلب ، فرب موسوس ينفر عن كل شيء ، ورب شره متساهل يطمئن إلى كل شيء ولا اعتبار بهذين القلبين وإنما الاعتبار بقلب العالم الموفق المراقب لدقائق الأحوال وهو ، المحك الذي يمتحن به خفايا الأمور وما أعز هذا القلب في القلوب فمن لم يثق بقلب نفسه فليلتمس النور من قلب هذه الصفة ، وليعرض عليه واقعته وجاء في الزبور أن الله تعالى أوحى إلى داود عليه السلام : قل لبني إسرائيل إني لا أنظر إلى صلاتكم ولا صيامكم ، ولكن أنظر إلى من شك في شيء فتركه لأجلي فذاك الذي أنظر إليه وأؤيده بنصري وأباهي به ملائكتي .