الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
فإن خص واحدا منه بمال كثير فلا بأس .

وكذلك للسلطان أن يخص من هذا المال ذوي الخصائص بالخلع والجوائز فقد كان يفعل ذلك في السلف ولكن ينبغي أن يلتفت فيه إلى المصلحة .

ومهما خص عالم أو شجاع بصلة كان فيه بعث للناس وتحريض على الاشتغال والتشبه به ، فهذه فائدة الخلع والصلات وضروب التخصيصات وكل ، ذلك منوط باجتهاد السلطان .

وإنما النظر في السلاطين الظلمة في شيئين .

; أحدهما أن السلطان الظالم عليه أن يكف عن ولايته وهو إما معزول أو واجب العزل فكيف يجوز أن يأخذ من يده وهو على التحقيق ليس بسلطان .

والثاني أنه ليس يعمم بماله جميع المستحقين ، فكيف يجوز للآحاد أن يأخذوا ؟ أفيجوز لهم الأخذ بقدر حصصهم أم لا يجوز أصلا ؟ أم يجوز أن يأخذ كل واحد ما أعطى .

؟ أما الأول فالذي نراه أنه لا يمنع أخذ الحق لأن السلطان الظالم الجاهل مهما ساعدته الشوكة وعسر خلعه وكان في الاستبدال به فتنة ثائرة لا تطاق وجب تركه ووجبت الطاعة له كما تجب طاعة الأمراء إذ قد ، ورد في الأمر بطاعة الأمراء .

والمنع من سل اليد عن مساعدتهم أوامر وزواجر .

فالذي نراه أن الخلافة منعقدة للمتكفل بها من بني العباس رضي الله عنه .

وأن الولاية نافذة للسلاطين في أقطار البلاد والمبايعين للخليفة وقد ذكرنا في كتاب المستظهري المستنبط من كتاب كشف الأسرار وهتك الأستار تأليف القاضي أبي الطيب في الرد على أصناف الروافض من الباطنية ما يشير إلى وجه المصلحة فيه ، والقول الوجيز أنا نراعي الصفات والشروط في السلاطين تشوفا إلى مزايا المصالح .

ولو قضينا ببطلان الولايات الآن لبطلت المصالح رأسا ، فكيف يفوت رأس المال في طلب الربح بل الولاية الآن لا تتبع إلا الشوكة .

فمن بايعه صاحب الشوكة فهو الخليفة .

ومن استبد بالشوكة وهو مطيع للخليفة في أصل الخطبة والسكة ، فهو سلطان نافذ الحكم .

التالي السابق


(فإن خص واحدا منهم بمال كثير فلا بأس) ، وإن كان غنيا، (وكذلك للسلطان أن يخص في هذا المال ذوي الخصائص ) من الأشراف والعلماء والصالحين (بالخلع) السنية، (والجوائز) البهية، (فقد كان ينقل ذلك عن السلف) ، والمنقول عن أصحابنا حرمة جواز التخصيص في هذا المال، بل للسلطان أن يصرف إلى كل مستحق قدر حاجته من غير زيادة، (ولكن ينبغي أن يلتفت فيه إلى المصلحة، ومهما خص عالم أو شجاع بصلة) أي: عطية (كان فيه تحريض للناس على الاشتغال) بالعلم والفروسية، (والتشبه به، فهذه فائدة الخلع والصلات) والتكريمات، (وضروب التخصيصات، فكل ذلك منوط باجتهاد السلطان) حسبما يؤديه فيما تقتضيه المصلحة، (وإنما النظر في السلاطين الظلمة في شيئين; أحدهما أن السلطان الظالم عليه أن يكف) ، أي: يمنع (عن ولايته) أمور المسلمين، (وهو إما معزول أو واجب العزل فكيف يجوز أن يؤخذ من يده) ، هذه الأموال والتخصيصات، (وهو على التحقيق ليس بسلطان) ; لأن الشرع قد عزله لظلمه .

(والثاني أنه ليس يعم بماله جميع المستحقين، فكيف يجوز للآحاد أن يأخذوا؟ أفيجوز لهم الأخذ بقدر حصتهم أم لا يجوز أصلا؟ أم يجوز أن يأخذ كل ما أعطي؟ أما الأول فالذي نراه أنه لا يمنع أخذ الحق لأن السلطان الظالم الجاهل) الغشوم (مهما ساعدته الشوكة) وهي القهر والغلبة، (وعسر) على الناس (خلعه) عن سلطنته، (وكان في الاستبدال به) غيره (فتنة لا تطاق) من حروب وشدائد (وجب تركه ووجبت الطاعة له) والانقياد لأمره، وعدم الخلاف عليه (كما تجب طاعة الأمراء، وقد ورد في الأمر بطاعة الأمراء والمنع عن شيل اليد) أي: رفعها (عن مساعدتهم) ومناصرتهم أخبار فيها (أوامر وزواجر) ، أما في الأمر بطاعة الأمراء، فأخرج أحمد والبخاري وابن ماجه من حديث أنس : "اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة" .

وأخرج أحمد ومسلم والنسائي من حديث أبي هريرة : "عليك السمع والطاعة [ ص: 122 ] في عسرك ويسرك، ومنشطك ومكرهك، وأثرة عليك" .

وروى مسلم من حديث أبي ذر : "أوصاني النبي صلى الله عليه وسلم أن أسمع وأطيع ولو لعبد مجدع الأطراف" .

ورواه أبو نعيم في الحلية كذلك، وأما في المنع من شيل اليد عن مناصرتهم، فأخرج البخاري ومسلم من حديث ابن عباس : "ليس أحد يفارق الجماعة شبرا فيموت، إلا مات ميتة جاهلية" .

وروى ابن أبي شيبة وأحمد ومسلم والنسائي من حديث أبي هريرة : "من خرج من الطاعة وفارق الجماعة مات ميتة جاهلية" . الحديث .

وروى الحاكم من حديث ابن عمر : "من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه حتى يراجعه، ومن مات وليس عليه إمام جماعة، فإن موتته موتة جاهلية" .

وروى مسلم من حديث ابن عمر : "من خلع يدا من طاعة لقي الله تعالى يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية" . (فالذي نراه أن الخلافة منعقدة للمتكفل بها من بني العباس ) ، وهم الخلفاء المشهورون، (وأن الولاية) على البلاد (نافذة للسلاطين في أقطار البلاد) المشرقية والشمالية والجنوبية، (المتابعين للخليفة) في وقته، (وقد ذكرنا في كتاب المستظهري) ، وهو الذي ألفه باسم المستظهر بالله العباسي ، (ما يشير إلى وجه المصلحة فيه، والقول) المختصر (الوجيز أنا نراعي الصفات والشروط في السلاطين تشوفا إلى مزايا المصالح) الدينية والدنيوية، (ولو قضينا ببطلان الولايات الآن لبطلت المصالح رأسا، فكيف يفوت رأس المال في طلب الربح) ، فالمصالح بمنزلة طلب الربح وولي الأمر بمنزلة رأس المال، (بل الولاية الآن لا تتبع إلا الشوكة) والعصبية، بل وقبل زمان المصنف، بل وفي كل زمان كما صرح بذلك ابن خلدون في مقدمة تاريخه، وعقد لذلك أبوابا وفصولا، ولذا تم الأمر لمعاوية ولم يتم لعلي رضي الله عنهما، وتم الأمر ليزيد بعد أبيه، ولم يتم للحسين بن علي رضي الله عنهما، (فمن بايعه صاحب الشوكة) وعاضدته العصبية (فهو الخليفة) الأعظم، (ومن استبد بالشوكة) أي: استقل بها، (وهو مطيع للخليفة في أصل الخطبة والسكة، فهو سلطان نافذ الحكم) ، فظهر مما تقدم أن الخلافة بالاستحقاق والسلطنة بالشوكة وقوة السيف ، فإن ساعدت مع الخلافة الشوكة والعصبية فقد تم له الأمر من غير مشاركة، فإن لم تساعد فأصحاب الشوكة سلاطين وأمراء نافذو الأحكام في البلاد مع الإطاعة الظاهرية في إبقاء اسم الخليفة في الخطبة والسكة فقط، وهؤلاء إن لم يكونوا مستبدين ظاهرا فهم في نفس الأمر لا تسمح نفوسهم للتبعية، وعلى هذا كانت أمراء العجم وسلاطينه، وكذا أمراء مصر ودمشق في زمن المصنف ومن قبله كذلك ومن بعده، وأما بعد دخول التتر إلى بغداد وإزالة الخلافة عنها أجريت رسومها بمصر على ما ذكرنا، ثم اضمحل الأمر جدا حتى لم يبق للخليفة إلا الاسم فقط، ثم اضمحلت هذه الرسوم بأجمعها فتملكت البلاد أصحاب الشوكة وذهب اسم الخلافة، فسبحان من يرث الأرض ومن عليها .




الخدمات العلمية