الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
روى ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا تمار أخاك ولا تمازحه ولا تعده موعدا فتخلفه وقد قال عليه السلام : إنكم لا تسعون الناس بأموالكم ولكن يسعهم منكم بسط وجه وحسن خلق والمماراة مضادة لحسن الخلق وقد انتهى السلف في الحذر عن المماراة والحض على المساعدة إلى حد لم يروا السؤال أصلا .

وقالوا : إذا قلت لأخيك قم فقال إلى أين ؟ فلا تصحبه بل قالوا ينبغي أن يقوم ولا يسأل .

وقال أبو سليمان الداراني كان لي أخ بالعراق ، فكنت أجيئه في النوائب فأقول : أعطني من مالك شيئا ، فكان يلقي إلي كيسه فآخذ منه ما أريد ، فجئته ذات يوم ، فقلت : أحتاج إلى شيء .

فقال : كم تريد ؟ فخرجت حلاوة إخائه من قلبي .

وقال آخر : إذا طلبت من أخيك مالا ، فقال ماذا : تصنع به ؟ فقد ترك حق الإخاء .

واعلم أن قوام الأخوة في الكلام والفعل والشفقة .

قال أبو عثمان الحيري موافقة الإخوان خير من الشفقة عليهم وهو كما قال .

التالي السابق


(وقد روى ابن عباس) رضي الله عنهما (عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: لا تماره) أي: لا تخاصمه (ولا تمازحه) بما يتأذى به (ولا تعده موعدا فتخلفه) قال الطيبي: إن روي منصوبا كان جوابا للنهي على التقدير أن يكون مسببا عما قبله، أو مرفوعا فالمنهي الوعد المستعقب للإخلاف أي: لا تعده موعدا فأنت [ ص: 220 ] تخلفه، على أنه جملة خبرية معطوفة على إنشائية. والوفاء بالوعد سنة مؤكدة، وقيل: واجب، قال العراقي: رواه الترمذي، وقال: غريب لا نعرفه لا من هذا الوجه، يعني من حديث ليث بن أبي سليم، وضعفه الجمهور. انتهى .

قلت: رواه هكذا في البر والصلة من طريق ليث بن أبي سليم، قال الذهبي: فيه ضعف من وجهة حديثه .

وروى أبو نعيم في الحلية من حديث معاذ بن جبل بسند ضعيف: إذا أحببت رجلا فلا تماره ولا تشاره ولا تسأل عنه أحدا، فعسى أن توافق له عدوا فيخبرك بما ليس فيه فيفرق بينك وبينه.

(وقال -صلى الله عليه وسلم- : إنكم لا تسعون الناس بأموالكم) بفتح السين أي: لا تطيقون أن تعموا، وفي رواية "إنكم لن تسعوا" أي: لا يمكنكم ذلك (ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق) وفي رواية: "فسعوهم بأخلاقكم" وذلك أن استيعاب عامتهم بالإحسان بالفعل غير ممكن، فأمر بجبر ذلك بالقول حسبما نطق به وقولوا للناس حسنا قال العسكري في الأمثال بعد أن أخرجه نقلا عن المولى، قال: لو وزنت كلمته -صلى الله عليه وسلم- بأحسن كلام الناس كلهم لرجحت على ذلك. يعني بها هذا الحديث، وقال الحراني: السعة المزيد على الكفاية من نحوهما إلى أن ينبسط إلى ما وراء امتدادا ورحمة وعلما، ولا تقع السعة إلا مع إحاطة العلم والقدرة وكمال الحكم والإفاضة في وجوه الكفايات ظاهرا وباطنا عموما وخصوصا، وذلك ليس إلا الله، أما المخلوق فلم يكن يصل إلى حظ من السعة إما ظاهرا فلم يقع منه ولا يكاد وإما باطنا بخصوص حسن الخلق ففساده يكاد. انتهى .

وكان إبراهيم بن أدهم يقول: إن الرجل ليدرك بحسن خلقه ما لا يدركه بماله؛ لأن المال عليه فيه زكاة وصلة أرحام وأشياء أخر، وخلقه ليس عليه فيه شيء، قال العراقي: رواه أبو يعلى الموصلي والطبراني في مكارم الأخلاق، وابن عدي في الكامل، وضعفه الحاكم وصححه البيهقي في الشعب من حديث أبي هريرة. انتهى .

قلت: وكذا رواه البزار وأبو نعيم، وأما البيهقي فإنه أخرجه من طريق الطبراني، وقال: تفرد به عبد الله بن سعيد المقبري عن أبيه .

وروي من وجه آخر ضعيف عن عائشة. انتهى. وفي الميزان: عبد الله بن سعيد هذا واه بمرة، وقال العلائي: منكر الحديث متروك، وقال يحيى: استبان كذبه، وقال الدارقطني: متروك ذاهب. وساق له أخبارا منها هذا، ثم قال: وقال البخاري: تركوه، وأما سند أبي يعلى فقال العلائي: إنه حسن .

(والمماراة مضادة لحسن الخلق) كادا لا يجتمعان (وقد انتهى السلف في الحذر عن المماراة والحض على المساعدة) وعدم الاختلاف (إلى حد لم يروا السؤال أيضا وقالوا: إذا قلت لأخيك قم فقال إلى أين؟ فلا تصحبه) فإن فيه نوع مخالفة في الظاهر وهذا وأمثاله وإن كان جائزا في الشرع ولكن لأهل الباطن فيه خصوص وتقييد يرون مخالفته خروجا عن الحد (و) كذا (قالوا بل يقوم) في أول وهلة (ولا يسأل) ولا يتردد، ولفظ القوت: وينبغي أن لا يخالفه في شيء ولا يعترض عليه في مراد، قال بعض العلماء: إذا قال الأخ لأخيه: قم بنا، فقال: إلى أين؟ فلا تصحبه .

(وقال أبو سليمان الداراني) -رحمه الله تعالى- (كان لي أخ بالعراق، فكنت أجيئه في النوائب) أي: الشدائد (فأقول: أعطني من مالك شيئا، فكان يلقي إلي الكيس الذي فيه المال فآخذ منه ما أريد، فجئته ذات يوم، فقلت: أحتاج إلى شيء، فقال: كم تريد؟ فخرجت حلاوة إخائه من قلبي) كذا في القوت .

(وقال آخر: إذا طلبت من أخيك مالا، فقال: ما تصنع به؟ فقد ترك حق الإخاء) ولفظ القوت: إذا قال: أعطني من مالك، فقال: كم تريد؟ وما تصنع به؟ لم يقم بحق الإخاء .

(واعلم أن قوام الأخوة) وأساسها (بالموافقة في الكلام والفعل والشفقة، قال أبو عثمان الحيري) سعيد بن إسماعيل المقيم بنيسابور صحب شاه الكرماني ويحيى بن معاذ الرازي، ثم ورد نيسابور على أبي حفص الحداد وأقام عنده وبه تخرج، مات سنة 298. قال القشيري في الرسالة: وكان يقال: في الدنيا ثلاثة لا رابع لهم: أبو عثمان بنيسابور والجنيد ببغداد وابن الجلاء بالشام (موافقة الإخوان خير من الشفقة) أي: التي فيها المخالفة (وهو كما قال) .




الخدمات العلمية