الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ومنها أن يزيد في توقير من تدل هيئته وثيابه على علو منزلته فينزل الناس منازلهم .

روي أن عائشة رضي الله عنها كانت في سفر فنزلت منزلا فوضعت طعامها فجاء سائل فقالت عائشة ناولوا هذا المسكين قرصا ثم مر رجل على دابة ، فقالت : ادعوه إلى الطعام .

فقيل لها : تعطين المسكين وتدعين هذا الغني ، فقالت : إن الله تعالى أنزل الناس منازل لا بد لنا من أن ننزلهم تلك المنازل ، هذا المسكين يرضى بقرص ، وقبيح بنا أن نعطي هذا الغني على هذه الهيئة قرصا .

وروي أنه صلى الله عليه وسلم دخل بعض بيوته فدخل عليه أصحابه حتى غص المجلس وامتلأ فجاء جرير بن عبد الله البجلي فلم يجد مكانا فقعد على الباب فلف رسول الله صلى الله عليه وسلم رداءه فألقاه إليه ، وقال له : اجلس على هذا ، فأخذه جرير ووضعه على وجهه ، وجعل يقبله ويبكي ، ثم لفه ورمى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال : ما كنت لأجلس على ثوبك أكرمك الله كما أكرمتني ، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم يمينا وشمالا ثم قال : إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه .

التالي السابق


(ومنها أن يزيد في توقير من تدل هيئته) الظاهرة (وثيابه) أي: ملبسه وكذا مركبه (على علو منزلته) ورفع مقامه (فينزل الناس منازلهم) ويدل على ذلك ما (روي أن عائشة -رضي الله عنها- كانت في سفر فنزلت منزلا فوضعت طعامها) لتأكل (فجاء سائل) فسأل (فقالت عائشة -رضي الله عنها-) لخدمها (ناولوا هذا المسكين) من هذا الطعام (قرصا ثم مر رجل) آخر ذو هيئة وهو راكب (على دابة، فقالت: ادعوه إلى الطعام، فقيل لها: تعطين المسكين) قرصا (وتدعين) أي: تطلبين (هذا الغني، فقالت: إن الله -عز وجل- قد أنزل الناس منازل لا بد لنا أن ننزلهم تلك المنازل، هذا المسكين رضي بقرص، وقبيح بنا أن نعطي هذا الغني على هذه الهيئة قرصا) رواه مسلم في أول صحيحه بلا إسناد تعليقا، فقال: ويذكر عن عائشة، قالت: أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن ننزل الناس منازلهم. ووصله أبو نعيم في المستخرج وغيره كأبي داود في السنن وابن خزيمة في الصحيح والبزار وأبو يعلى في مسنديهما والبيهقي في الأدب والعسكري في الأمثال وغيرهم كلهم من طريق ميمون بن أبي شبيب، قال: جاء سائل إلى عائشة فأمرت له بكسرة وجاء رجل ذو هيئة فأقعدته معها، فقيل لها: لم فعلت ذلك؟ قالت: أمرنا، وذكره. ومنهم من اختصر هذا، ولفظ أبي نعيم في الحلية: إن عائشة كانت في سفر وأمرت لناس من قريش بغداء، فجاء رجل غني ذو هيئة، فقالت: ادعوه، فنزل فأكل ومضى وجاء سائل [ ص: 265 ] فأمرت له بكسرة، فقالت: إن هذا الغني لم يجمل بنا إلا ما صنعنا به وإن هذا الفقير سأل فأمرت له بما يترضاه، وإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمرنا، وذكره. ولفظ أبي داود: "وأنزلوا الناس منازلهم". وقد صحح هذا الحديث الحاكم في معرفة علوم الحديث وكذا غيره، وتعقب بالانقطاع وبالاختلاف على راويه في رفعه، وقال السخاوي في المقاصد: وبالجملة فحديث عائشة حسن، وفي هذا الباب عن معاذ وجابر وعلي فحديث معاذ: "أنزل الناس منازلهم من الخير والشر وأحسن أدبهم على الأخلاق الصالحة". رواه الخرائطي في مكارم الأخلاق مرفوعا، وحديث جابر: "جالسوا الناس على قدر أحسابهم وخالطوا الناس على قدر أديانهم وأنزلوا الناس منازلهم وداروا الناس بعقولكم". رواه الغسولي في جزئه مرفوعا، وحديث علي: "من أنزل الناس منازلهم رفع المؤنة عن نفسه، ومن رفع أخاه فوق قدره اجتر عداوته". رواه أبو الزهري في تذكرة الغافل موقوفا .

(وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- دخل بعض بيوته فدخل عليه أصحابه حتى غص المجلس وامتلأ) وفي نسخة: "حتى دهس وامتلأ المجلس" (فجاء جرير بن عبد الله البجلي) -رضي الله عنه- (فلم يجد مكانا فقعد على الباب فلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رداءه فألقاه إليه، وقال له: اجلس على هذا، فأخذه جرير) - رضي الله عنه- (ووضعه على وجهه، وجعل يقبله ويبكي، ثم لفه فرمى به إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: ما كنت لأجلس على ثوبك أكرمك الله كما أكرمتني، فنظر النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: إذا أتاكم كريم قوم) أي: رئيسهم المطاع فيهم المعود منهم بإكثار الاحترام وفي رواية: "كريمة قوم" قال ابن الأثير: والهاء فيه للمبالغة (فأكرموه) برفع مجلسه وإجزال عطيته ونحو ذلك؛ لأن الله عوده ذلك ابتلاء منه له، فمن استعمل معه غيره فقد استهان به وجفله وأفسد عليه دينه، فإن ذلك يورث في قلبه الغل والحقد والبغضاء والعداوة، وذلك يجر إلى سفك الدماء، وفي إكرامه اتقاء شره وإبقاء دينه؛ فإنه قد تعزز بدنياه وتكبر وتاه وعظم في نفسه، فإذا حقرته فقد أهلكته من حيث الدين والدنيا، وبه عرف أنه ليس المراد بكريم القوم عالمهم أو صالحهم كما وهم البعض، ألا تراه أنه لم ينسبه في الحديث إلى علم ولا إلى دين .

ومن هذا البيان انكشف لك أن استثناء الفاسق والكافر كما وقع للبعض منشؤه الغفلة عما تقرر من أن الإكرام شرط بخوف محذور ديني أو دنيوي أو لحوق ضرر للفاعل، فمتى خيف شيء من ذلك شرع إكرامه كائنا من كان، بل قد يجب فيمن قدم عليه بعض الولاة الفسقة الظلمة فأقصى مجلسه وعامله بمعاملة الرعية فقد عرض نفسه وماله للبلاء، فإن أوذي ولم يصبر فقد خسر الدنيا والآخرة .

قال العراقي: رواه الحاكم من حديث جابر وقال: صحيح الإسناد، وتقدم في الزكاة مختصرا. اهـ .

قلت: ورواه ابن ماجه في سننه من طريق سعيد بن مسلمة عن محمد بن عجلان عن نافع عن ابن عمر رفعه بهذا وسنده ضعيف، محمد بن عجلان ذكره البخاري في الضعفاء، وقال الحاكم: سيئ الحفظ، ولم يخرج له مسلم إلا في الشواهد، لكن روى الطبراني في الوسط من طريق حصين ابن عمر الأحمسي عن إسماعيل ابن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير البجلي قال: لما بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- أتيته فقال: ما جاء بك؟ قلت: جئت لأسلم، فألقى إلي كساءه، وقال: "إذا أتاكم" الخ. وحصين فيه ضعف وله طريق آخر عن الطبراني في الأوسط والصغير بسند ضعيف وآخر عن البزار في مسنده من حديث جرير وهو ضعيف أيضا عن أبي بريدة عن يحيى بن يعمر عن جرير قال: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فبسط إلي رداءه، وقال: اجلس على هذا، فقلت: أكرمك الله كما أكرمتني، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أتاكم" الخ. وقال: إنه غريب بهذا الإسناد، ويحيى بن يعمر لا نعلم روى عن جرير إلا هذا، وللعسكري في الأمثال وابن شاهين وابن السكن وأبي نعيم وابن منده في كتبهم من الصحابة وابن سعد في شرف المصطفى والحكيم الترمذي وآخرين، كلهم من طريق صابر بن سالم بن حميد بن يزيد بن عبد الله بن حمزة، حدثني أبي عن أبيه حدثني يزيد بن عبد الله حدثتني أختي أم القصاف قالت: حدثني أبي عبد الله بن حمزة أنه بينما هو قاعد عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في جماعة من أصحابه إذ قال: "سيطلع عليكم من هذه الثنية خير ذو يمن" فإذا هم بجرير بن عبد الله، فذكر قصة طولها [ ص: 266 ] بعضهم، وفيه: فقالوا: يا نبي الله لقد رأينا منك له ما لم نره لأحد، فقال: "نعم؛ هذا كريم قوم، فإذا أتاكم كريم قوم فأكرموه". وليس عند ابن السكن، حدثتني أختي وسنده مجهول، وللعسكري فقط من حديث مجالد عن الشعبي عن عدي ابن حاتم أنه لما دخل على النبي -صلى الله عليه وسلم- ألقى إليه وسادة فجلس على الأرض وقال: أشهد أنك لا تبغي علوا في الأرض ولا فسادا في الأرض. فأسلم، ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وذكره وسنده ضعيف أيضا .

وللدولابي في الكنى من طريق عبد الرحمن بن خالد بن عثمان عن أبيه عن عثمان عن جده محمد بن عثمان بن عبد الرحمن عن جده أبي راشد عبد الرحمن بن عبد الله قال: قدمت على النبي -صلى الله عليه وسلم- في مائة رجل من قومي فذكر حديثا وفيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أكرمه فأجلسه وكساه رداءه ودفع إليه عصاه وأنه أسلم، فقال له رجل من جلسائه: يا رسول الله إنا نراك أكرمت هذا الرجل، فقال: إن هذا شريف قوم، وإذا أتاكم شريف قوم فأكرموه، ولأبي داود في المراسيل وسنده صحيح من حديث طارق عن الشعبي رفعه مرسلا "إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه" وقال: روي متصلا وليس بشيء، وفي الباب عن ابن عباس ومعاذ وأبي قتادة وأبي هريرة وآخرين منهم أنس.




الخدمات العلمية