قالوا : والعزلة هجره بالكلية .
وهذا ضعيف لأن المراد به الغضب على الناس واللجاج فيه بقطع الكلام والسلام والمخالطة المعتادة فلا يدخل فيه ترك المخالطة أصلا من غير غضب .
مع أن الهجر فوق ثلاث جائز في موضعين : .
أحدهما : أن يرى فيه إصلاحا للمهجور في الزيادة .
الثاني : أن يرى لنفسه سلامة فيه والنهي وإن كان عاما فهو محمول على ما وراء الموضعين المخصوصين بدليل ما روي عن عائشة رضي الله عنها .
أن النبي صلى الله عليه وسلم هجرها ذا الحجة والمحرم وبعض صفر .
وروي عن عمر أنه صلى الله عليه وسلم اعتزل نساءه وآلى منهن شهرا وصعد إلى غرفة له وهي خزانته فلبث تسعا وعشرين يوما فلما نزل قيل له : إنك كنت فيها تسعا وعشرين فقال : الشهر قد يكون تسعا وعشرين .
وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام إلا أن يكون ممن لا تؤمن بوائقه .
فهذا صريح في التخصيص وعلى هذا ينزل قول الحسن رحمه الله حيث قال : هجران الأحمق قربة إلى الله فإن ذلك يدوم إلى الموت؛ إذ الحماقة لا ينتظر علاجها .
وذكر عند محمد بن عمر الواقدي رجل هجر رجلا حتى مات فقال : هذا شيء قد تقدم فيه قوم سعد بن أبي وقاص كان مهاجرا لعمار بن ياسر حتى مات وعثمان بن عفان كان مهاجرا لعبد الرحمن بن عوف وعائشة كانت مهاجرة لحفصة .
وكان طاوس مهاجرا لوهب بن منبه حتى ماتا .
وكل ذلك يحمل على رؤيتهم سلامتهم في المهاجرة .
واحتجوا بما روي أن رجلا أتى الجبل ليتعبد فيه فجيء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : لا تفعل أنت ولا أحد منكم ، لصبر أحدكم في بعض مواطن الإسلام خير له من عبادة أحدكم وحده أربعين عاما .
والظاهر أن هذا إنما كان لما فيه من ترك الجهاد مع شدة وجوبه في ابتداء الإسلام بدليل ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال غزونا مع : رسول الله صلى الله عليه وسلم فمررنا بشعب فيه عيينة طيبة الماء فقال واحد من القوم : لو اعتزلت الناس في هذا الشعب ولن أفعل ذلك حتى أذكره لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم لا تفعل؛ فإن مقام أحدكم في سبيل الله خير من صلاته في أهله ستين عاما ، ألا تحبون أن يغفر الله لكم وتدخلون الجنة ? اغزوا في سبيل الله؛ فإنه من قاتل في سبيل الله فواق ناقة أدخله الله الجنة .


