الباب الثاني في فوائد العزلة وغوائلها وكشف الحق في فضلها .
اعلم أن اختلاف الناس في هذا يضاهي اختلافهم في فضيلة النكاح والعزوبة .
وقد ذكرنا أن ذلك يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص بحسب ما فصلناه من آفات النكاح وفوائده فكذلك القول فيما نحن فيه .
فلنذكر أولا فوائد العزلة وهي تنقسم إلى : فوائد دينية ودنيوية، .
والدينية تنقسم إلى : ما يمكن من تحصيل الطاعات في الخلوة والمواظبة على العبادة والفكر وتربية العلم وإلى تخلص من ارتكاب المناهي التي يتعرض الإنسان لها بالمخالطة كالرياء والغيبة والسكوت عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومسارقة الطبع من الأخلاق الرديئة والأعمال الخبيثة من جلساء السوء .
وأما الدنيوية فتنقسم إلى : ما يمكن من التحصيل بالخلوة كتمكن المحترف في خلوته إلى ما يخلص من محذورات يتعرض لها بالمخالطة كالنظر إلى زهرة الدنيا وإقبال الخلق عليها وطمعه في الناس وطمع الناس فيه ، وانكشاف ستر مروءته بالمخالطة والتأذي بسوء خلق الجليس في مرائه أو سوء ظنه أو نميمته أو محاسدته أو التأذي بثقله وتشويه خلقته .
وإلى هذا ترجع مجامع فوائد العزلة فلنحصرها في ست فوائد .
الفائدة الأولى .
التفرغ للعبادة والفكر والاستئناس بمناجاة الله .
تعالى عن مناجاة الخلق والاشتغال باستكشاف أسرار الله تعالى في أمر الدنيا والآخرة وملكوت السموات والأرض فإن ذلك يستدعي فراغا ولا فراغ مع المخالطة فالعزلة وسيلة إليه .
ولهذا قال بعض الحكماء : لا يتمكن أحد من الخلوة إلا بالتمسك بكتاب الله تعالى .
والمتمسكون بكتاب الله تعالى هم الذين استراحوا من الدنيا بذكر الله الذاكرون الله بالله عاشوا بذكر الله وماتوا بذكر الله ولقوا الله بذكر الله .
ولا شك في أن هؤلاء تمنعهم المخالطة عن الفكر والذكر فالعزلة أولى بهم .
ولذلك كان صلى الله عليه وسلم في ابتداء أمره يتبتل في جبل حراء وينعزل إليه حتى قوي فيه نور النبوة .
فكان الخلق لا يحجبونه عن الله فكان ببدنه مع الخلق وبقلبه مقبلا على الله تعالى حتى كان الناس يظنون أن أبا بكر خليله .
فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن استغراق همه بالله فقال : لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن صاحبكم خليل الله .
ولن يسع الجمع بين مخالطة الناس ظاهرا والإقبال على الله سرا إلا قوة النبوة فلا ينبغي أن يغتر كل ضعيف بنفسه فيطمع في ذلك ولا يبعد أن تنتهي درجة بعض الأولياء إليه .
فقد نقل عن الجنيد أنه قال : أنا أكلم الله منذ ثلاثين سنة والناس يظنون أني أكلمهم .
وهذا إنما يتيسر للمستغرق بحب الله استغراقا لا يبقى لغيره فيه متسع وذلك غير منكر ففي المشتهرين بحب الخلق من يخالط الناس ببدنه وهو لا يدري ما يقول ولا ما يقال له لفرط عشقه لمحبوبه .
بل الذي دهاه ملم يشوش عليه أمرا من أمور دنياه فقد يستغرقه الهم بحيث يخالط الناس ولا يحس بهم ولا يسمع أصواتهم لشدة استغراقه .
وأمر الآخرة أعظم عند العقلاء فلا تستحيل ذلك فيه ولكن الأولى بالأكثرين الاستعانة بالعزلة .
ولذلك قيل لبعض الحكماء ما الذي أرادوا بالخلوة واختيار العزلة فقال يستدعون ؟ : بذلك دوام الفكرة وتثبت العلوم في قلوبهم ليحيوا حياة طيبة ويذوقوا حلاوة المعرفة .
وقيل لبعض الرهبان ما أصبرك على الوحدة ! فقال : ما أنا وحدي ، أنا جليس الله تعالى إذا شئت أن يناجيني قرأت كتابه وإذا شئت أن أناجيه صليت .
وقيل : لبعض الحكماء إلى أي شيء أفضى بكم الزهد والخلوة؟ فقال : إلى الأنس بالله .
وقال سفيان بن عيينة لقيت إبراهيم بن أدهم رحمه الله في بلاد الشام فقلت له : يا إبراهيم تركت خراسان فقال : ما تهنأت بالعيش إلا ههنا أفر بديني من شاهق إلى شاهق فمن يراني يقول موسوس أو حمال أو ملاح .
وقيل لغزوان الرقاشي هبك لا تضحك فما يمنعك من مجالسة إخوانك ? قال : إني أصيب راحة قلبي في مجالسة من عنده حاجتي .
وقيل للحسن يا أبا سعيد ههنا رجل لم تره قط جالسا إلا وحده خلف سارية .
فقال الحسن : إذا رأيتموه فأخبروني به فنظروا إليه ذات يوم فقالوا للحسن : هذا الرجل الذي أخبرناك به وأشاروا إليه فمضى إليه الحسن وقال له .
: يا عبد الله أراك قد حببت إليك العزلة فما يمنعك من مجالسة الناس ? فقال : أمر شغلني عن الناس ، قال : فما يمنعك أن تأتي هذا الرجل الذي يقال له الحسن فتجلس إليه فقال : أمر شغلني عن الناس .
وعن الحسن فقال له الحسن وما ذاك الشغل يرحمك الله فقال ؟ : إني أصبح وأمسي بين نعمة وذنب فرأيت أن أشغل نفسي بشكر الله تعالى على النعمة والاستغفار من الذنب فقال ، له الحسن : أنت يا عبد الله أفقه عندي من الحسن فالزم ما أنت عليه .
وقيل : بينما أويس القرني جالس إذ أتاه هرم بن حيان فقال له أويس : ما جاء بك ? قال : جئت لآنس بك ، فقال أويس : ما كنت أرى أن أحدا يعرف ربه فيأنس بغيره وقال الفضيل إذا رأيت الليل مقبلا فرحت به وقلت : أخلو بربي وإذا رأيت الصبح أدركني استرجعت كراهية لقاء الناس وأن يجيئني من يشغلني عن ربي .
وقال عبد الله بن زيد طوبى لمن عاش في الدنيا وعاش في الآخرة ، قيل له : وكيف ذلك ? قال : يناجي الله في الدنيا ويجاوره في الآخرة .
وقال ذو النون المصري سرور المؤمن ولذته في الخلوة بمناجاة ربه .
وقال مالك بن دينار من لم يأنس بمحادثة الله عز وجل عن محادثة المخلوقين فقد قل علمه وعمي قلبه وضيع عمره .
وقال ابن المبارك ما أحب حال من انقطع إلى الله تعالى. ويروى عن بعض الصالحين أنه قال بينما : أنا أسير في بعض بلاد الشام إذا أنا بعابد خارج من بعض تلك الجبال فلما نظر إلي تنحى إلى أصل شجرة وتستر بها فقلت : سبحان الله ! تبخل علي بالنظر إليك ? فقال : هذا إني أقمت في هذا الجبل دهرا طويلا أعالج قلبي في الصبر عن الدنيا وأهلها فطال في ذلك تعبي وفني فيه عمري فسألت الله تعالى أن لا يجعل حظي من أيامي في مجاهدة قلبي فسكنه الله عن الاضطراب وألفه الوحدة والانفراد، فلما نظرت إليك خفت أن أقع في الأمر الأول فإليك عني فإني أعوذ من شرك برب العارفين وحبيب القانتين ثم صاح واغماه من طول المكث في الدنيا ثم حول وجهه عني ثم نفض يديه وقال : إليك عني يا دنيا لغيري فتزيني وأهلك فغري ثم قال : سبحان من أذاق قلوب العارفين من لذة الخدمة وحلاوة الانقطاع إليه ما ألهى قلوبهم عن ذكر الجنان وعن الحور الحسان وجمع همهم في ذكره فلا شيء ألذ عندهم من مناجاته ثم مضى وهو يقول : قدوس قدوس .


