. آفات العزلة
اعلم أن من المقاصد الدينية والدنيوية ما يستفاد بالاستعانة بالغير ولا يحصل ذلك إلا بالمخالطة .
فكل ما يستفاد من المخالطة يفوت بالعزلة وفواته من آفات العزلة .
فانظر إلى ما هي وهي التعليم والتعلم والنفع والانتفاع والتأديب والتأدب والاستيناس والإيناس ونيل الثواب وإنالته في القيام بالحقوق واعتياد التواضع واستفادة التجارب من مشاهدة الأحوال والاعتبار بها . فوائد المخالطة والدواعي إليها
فلنفصل ذلك فإنها من فوائد المخالطة وهي سبع .
الفائدة الأولى .
وقد ذكرنا فضلهما في كتاب العلم وهما أعظم التعليم والتعلم
ولا يتصور ذلك إلا بالمخالطة إلا أن العلوم كثيرة وعن بعضها مندوحة وبعضها ضروري في الدنيا . العبادات في الدنيا .
فالمحتاج إلى التعلم لما هو فرض عليه عاص بالعزلة .
وإن تعلم الفرض وكان لا يتأتى منه الخوض في العلوم ورأى الاشتغال بالعبادة فليعتزل .
وإن كان يقدر على التبرز في علوم الشرع والعقل فالعزلة في حقه قبل التعلم غاية الخسران؛ .
ولهذا قال النخعي وغيره تفقه ثم اعتزل فمن اعتزل قبل التعلم فهو في الأكثر مضيع أوقاته بنوم أو فكر في هوس وغايته أن يستغرق الأوقات بأوراد يستوعبها ولا ينفك في أعماله بالبدن والقلب عن أنواع من الغرور يخيب سعيه ويبطل عمله بحيث لا يدري ولا ينفك اعتقاده في الله وصفاته عن أوهام يتوهمها ويأنس بها وعن خواطر فاسدة تعتريه فيها فيكون في أكثر أحواله ضحكة للشيطان وهو يرى نفسه من العباد .
فالعلم هو أصل الدين فلا خير في عزلة العوام والجهال أعني من لا يحسن العبادة في الخلوة ولا يعرف جميع ما يلزم فيها .
فمثال النفس مثال مريض يحتاج إلى طبيب متلطف يعالجه فالمريض الجاهل إذا خلا بنفسه عن الطبيب قبل أن يتعلم الطب تضاعف لا محالة مرضه .
فلا تليق العزلة إلا بالعالم وأما التعليم ففيه ثواب عظيم مهما صحت نية المعلم والمتعلم .
ومهما كان القصد إقامة الجاه والاستكثار بالأصحاب والأتباع فهو هلاك الدين .
وقد ذكرنا وجه ذلك في كتاب العلم .
وحكم في العالم في هذا الزمان أن يعتزل إن أراد سلامة دينه .
فإنه لا يرى مستفيدا يطلب فائدة لدينه بل لا طالب إلا لكلام مزخرف يستميل به العوام في معرض الوعظ أو الجدل معقد يتوصل به إلى إفحام الأقران ويتقرب به إلى السلطان ويستعمل في معرض المنافسة والمباهاة وأقرب علم مرغوب فيه المذهب ولا يطلب غالبا إلا للتوصل إلى التقدم على الأمثال وتولي الولايات واجتلاب الأموال .
فهؤلاء كلهم يقتضي الدين والحزم الاعتزال عنهم فإن صودف طالب لله ومتقرب بالعلم إلى الله فأكبر الكبائر الاعتزال عنه وكتمان العلم منه وهذا لا يصادف في بلدة كبيرة أكثر من واحد أو اثنين إن صودف .
ولا ينبغي أن يغتر الإنسان بقول سفيان تعلمنا العلم لغير الله فأبى العلم أن يكون إلا لله فإن الفقهاء يتعلمون لغير الله ثم يرجعون إلى الله .
وانظر إلى أواخر أعمار الأكثرين منهم واعتبرهم أنهم ماتوا وهم هلكى على طلب الدنيا ومتكالبون عليها أو راغبون عنها وزاهدون فيها وليس الخبر كالمعاينة .
واعلم أن العلم الذي أشار إليه سفيان هو علم الحديث وتفسير القرآن ومعرفة سير الأنبياء والصحابة فإن فيها التخويف والتحذير وهو ، سبب لإثارة الخوف من الله فإن لم يؤثر في الحال أثر في المآل .
وأما الكلام والفقه المجرد الذي يتعلق بفتاوى المعاملات وفصل الخصومات المذهب منه والخلاف لا يرد الراغب فيه للدنيا إلى الله بل لا يزال متماديا في حرصه إلى آخر عمره .
ولعل ما أودعناه هذا الكتاب إن تعلمه المتعلم رغبة في الدنيا فيجوز أن يرخص فيه إذ يرجى أن ينزجر به في آخر عمره فإنه مشحون بالتخويف بالله والترغيب في الآخرة والتحذير من الدنيا وذلك مما يصادف في الأحاديث وتفسير القرآن ولا يصادف في كلام ولا في خلاف ولا في مذهب .
فلا ينبغي أن يخادع الإنسان نفسه فإن المقصر العالم بتقصيره أسعد حالا من الجاهل المغرور أو المتجاهل المغبون وكل عالم اشتد حرصه على التعليم يوشك أن يكون غرضه القبول والجاه وحظه تلذذ النفس في الحال باستشعار الإدلال على الجهال والتكبر عليهم فآفة العلم الخيلاء كما قال صلى الله عليه وسلم .
ولذلك حكي عن أنه دفن سبعة عشر قمطرا من كتب الأحاديث التي سمعها وكان لا يحدث ويقول إني أشتهي : أن أحدث؛ فلذلك لا أحدث ، ولو اشتهيت أن لا أحدث لحدثت ولذلك قال : حدثنا باب من أبواب الدنيا وإذا قال الرجل : حدثنا فإنما يقول : أوسعوا لي . بشر
وقالت رابعة العدوية لسفيان الثوري نعم الرجل أنت لولا رغبتك في الدنيا ، قال وفيماذا : رغبت ? قالت : في الحديث .
ولذلك قال من تزوج أو طلب الحديث أو اشتغل بالسفر فقد ركن إلى الدنيا . أبو سليمان الداراني