ومن لم يحركه السماع فهو ناقص مائل عن الاعتدال بعيد عن الروحانية ، زائد في غلظ الطبع وكثافته على الجمال والطيور بل على جميع البهائم ، فإن جميعها تتأثر بالنغمات الموزونة .
ولذلك كانت الطيور تقف على رأس داود عليه السلام لاستماع صوته .
ومهما كان لم يجز أن يحكم فيه مطلقا بإباحة ولا تحريم بل يختلف ذلك بالأحوال والأشخاص ، واختلاف طرق النغمات فحكمه حكم ما في القلب . النظر في السماع باعتبار تأثيره في القلب
قال أبو سليمان السماع لا يجعل في القلب ما ليس فيه ولكن يحرك ما هو فيه فالترنم بالكلمات المسجعة الموزونة معتاد في مواضع لأغراض مخصوصة ترتبط بها آثار في القلب وهي سبعة مواضع : .
الأول : غناء الحجيج فإنهم أولا يدورون في البلاد بالطبل والشاهين والغناء وذلك مباح لأنها أشعار نظمت في وصف الكعبة والمقام والحطيم وزمزم وسائر المشاعر ووصف البادية وغيرها وأثر ذلك ، يهيج الشوق إلى حج بيت الله تعالى واشتعال نيرانه إن كان ثم شوق حاصل أو استثارة الشوق واجتلابه إن لم يكن حاصلا .
وإذا كان الحج قربة والشوق إليه محمودا كان التشويق إليه بكل ما يشوق محمودا .
وكما يجوز للواعظ أن ينظم كلامه في الوعظ ويزينه بالسجع ويشوق الناس إلى الحج بوصف البيت والمشاعر ووصف الثواب عليه جاز لغيره ذلك على نظم الشعر ، فإن الوزن إذا انضاف إلى السجع صار الكلام أوقع في القلب فإذا أضيف إليه صوت طيب ونغمات موزونة زاد وقعه فإن أضيف إليه الطبل والشاهين وحركات الإيقاع زاد التأثير .
وكل ذلك جائز ما لم يدخل فيه المزامير والأوتار التي هي من شعار الأشرار نعم إن قصد به تشويق من لا يجوز له الخروج إلى الحج كالذي أسقط الفرض عن نفسه ولم يأذن له أبواه في الخروج فهذا يحرم عليه الخروج .
فيحرم بكل كلام يشوق إلى الخروج ، فإن التشويق إلى الحرام حرام . تشويقه إلى الحج بالسماع
وكذلك إن كانت الطريق غير آمنة وكان الهلاك غالبا لم يجز تحريك القلوب ومعالجتها بالتشويق .
الثاني : . ما يعتاده الغزاة لتحريض الناس على الغزو
وذلك أيضا مباح كما للحاج ولكن ينبغي أن تخالف أشعارهم وطرق ألحانهم أشعار الحاج وطرق ألحانهم لأن استثارة داعية الغزو بالتشجيع وتحريك الغيظ والغضب فيه على الكفار وتحسين الشجاعة واستحقار النفس والمال بالإضافة إليه بالأشعار المشجعة .
مثل قول المتنبي .
فإن لا تمت تحت السيوف مكرما تمت وتقاس الذل غير مكرم
وقوله أيضا: .يرى الجبناء أن الجبن حزم وتلك خديعة الطبع اللئيم
وطرق الأوزان المشجعة تخالف الطرق المشوقة .
وهذا ، أيضا مباح في وقت يباح فيه الغزو .
ومندوب إليه وقت يستحب فيه الغزو ، ولكن في حق من يجوز له الخروج إلى الغزو .
الثالث : وتحريك النشاط فيهم للقتال وفيه التمدح بالشجاعة والنجدة وذلك إذا كان بلفظ رشيق وصوت طيب كان أوقع في النفس وذلك مباح في كل قتال مباح ومندوب في قتال مندوب ومحظور في قتال المسلمين وأهل الذمة . الرجزيات التي يستعملها الشجعان في وقت اللقاء والغرض منها التشجيع للنفس وللأنصار
وكل قتال محظور ; لأن تحريك الدواعي إلى المحظور محظور .
وذلك منقول عن شجعان الصحابة رضي الله عنهم كعلي وخالد رضي الله عنهما وغيرهما .
ولذلك نقول : ينبغي أن يمنع من الضرب بالشاهين في معسكر الغزاة ، فإن صوته مرقق محزن يحلل عقدة الشجاعة ويضعف صرامة النفس ويشوق إلى الأهل والوطن ويورث الفتور في القتال وكذا سائر الأصوات والألحان المرققة للقلب ، فالألحان المرققة المحزنة تباين الألحان المحركة المشجعة ، فمن فعل ذلك على قصد تغيير القلوب وتفتير الآراء عن القتال الواجب فهو عاص ومن فعله على قصد التفتير عن القتال المحظور فهو بذلك مطيع .
الرابع : قسمان : محمود ومذموم . أصوات النياحة ونغماتها وتأثيرها في تهييج الحزن والبكاء وملازمة الكآبة والحزن
فأما المذموم فكالحزن على ما فات قال الله تعالى لكيلا تأسوا على ما فاتكم ، والحزن على الأموات من هذا القبيل ، فإنه تسخط لقضاء الله تعالى وتأسف على ما لا تدارك له .
فهذا الحزن لما كان مذموما كان تحريكه بالنياحة مذموما ، فلذلك ورد النهي الصريح عن النياحة .
وأما الحزن المحمود فهو حزن الإنسان على تقصيره في أمر دينه وبكاؤه على خطاياه .
والبكاء والتباكي .
والحزن والتحازن على ذلك محمود وعليه بكاء آدم عليه السلام .
وتحريك هذا الحزن وتقويته محمود لأنه يبعث على التشمير للتدارك ولذلك كانت نياحة داود عليه السلام محمودة إذ كان ذلك مع دوام الحزن وطول البكاء بسبب الخطايا والذنوب فقد كان عليه السلام يبكي ويبكي ويحزن حتى كانت الجنائز ترفع من مجالس نياحته .
وكان يفعل ذلك بألفاظه وألحانه وذلك محمود ; لأن المفضي إلى المحمود محمود .
وعلى هذا المرققة للقلب ولا أن يبكي ويتباكى ليتوصل به إلى تبكية غيره وإثارة حزنه . لا يحرم على الواعظ الطيب الصوت أن ينشد على المنبر بألحانه الأشعار المحزنة