الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
العارض الخامس : أن يكون الشخص من عوام الخلق ولم يغلب عليه حب الله تعالى فيكون السماع له محبوبا ولو غلبت عليه شهوة فيكون في حقه محظورا .

ولكنه أبيح في حقه كسائر أنواع اللذات المباحة إلا أنه إذا اتخذه ديدنه وهجيراه وقصر عليه أكثر أوقاته فهذا هو السفيه الذي ترد شهادته فإن المواظبة على اللهو جناية .

وكما أن الصغيرة بالإصرار والمداومة تصير كبيرة ، فكذلك بعض المباحات بالمداومة تصير صغيرة وهو كالمواظبة على متابعة الزنوج والحبشة والنظر إلى لعبهم على الدوام ، فإنه ممنوع وإن لم يكن أصله ممنوعا إذ فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ومن هذا القبيل اللعب بالشطرنج فإنه مباح ، ولكن المواظبة عليه مكروهة كراهة شديدة .

ومهما كان الغرض اللعب والتلذذ باللهو فذلك ، إنما يباح لما فيه من ترويح القلب إذ راحة القلب معالجة له في بعض الأوقات لتنبعث دواعيه فيشتغل في سائر الأوقات بالجد الدنيا كالكسب والتجارة ، أو في الدين كالصلاة والقراءة .

واستحسان ذلك فيما بين تضاعيف الجد كاستحسان الخال على الخد ولو استوعبت الخيلان في الوجه لشوهته فما أقبح ذلك فيعود الحسن قبحا بسبب الكثرة ، فما كل حسن يحسن كثيره ولا كل مباح يباح كثيره بل الخبز مباح والاستكثار منه حرام .

فهذا المباح كسائر المباحات .

فإن قلت : فقد أدى مساق هذا الكلام إلى أنه مباح في بعض الأحوال دون بعض فلم أطلقت القول أولا بالإباحة إذ إطلاق القول في المفصل بلا أو بنعم خلف وخطأ فاعلم أن هذا غلط لأن الإطلاق إنما يمتنع لتفصيل ينشأ من غير ما فيه النظر ، فأما ما ينشأ من الأحوال العارضة المتصلة به من خارج فلا يمنع الإطلاق ألا ترى أنا إذا سئلنا عن العسل أهو حلال أم لا ? قلنا : إنه حلال على الإطلاق مع أنه حرام على المحرور الذي يستضر به وإذا سئلنا عن الخمر قلنا .

إنها : حرام .

مع إنها تحل لمن غص بلقمة أن يشربها مهما لم يجد غيرها ولكن هي من حيث إنها خمر حرام ، وإنما أبيحت لعارض الحاجة .

والعسل من حيث إنه عسل حلال ، وإنما حرم لعارض الضرر وما يكون لعارض فلا يلتفت إليه ، فإن البيع حلال ويحرم بعارض الوقوع في وقت النداء يوم الجمعة ونحوه من العوارض والسماع من جملة المباحات من حيث إنه سماع صوت طيب موزون مفهوم ، وإنما تحريمه لعارض خارج عن حقيقة ذاته .

فإذا ، انكشف الغطاء عن دليل الإباحة فلا نبالي بمن يخالف بعد ظهور الدليل .

وأما الشافعي رضي الله عنه فليس تحريم الغناء من مذهبه أصلا .

وقد نص الشافعي وقال في الرجل يتخذه صناعة لا تجوز شهادته .

وذلك لأنه من اللهو المكروه الذي يشبه الباطل ، ومن اتخذه صنعة كان منسوبا إلى السفاهة وسقوط المروءة وإن لم يكن محرما بين التحريم .

فإن كان لا ينسب نفسه إلى الغناء ولا يؤتى لذلك ولا يأتي لأجله ، وإنما يعرف بأنه قد يطرب في الحال فيترنم بها لم يسقط هذا مروءته ولم يبطل شهادته .

واستدل بحديث الجاريتين اللتين كانتا تغنيان في بيت عائشة رضي الله عنها وقال يونس بن عبد الأعلى سألت الشافعي رحمه الله عن إباحة أهل المدينة للسماع فقال الشافعي : .

لا أعلم أحدا من علماء الحجاز كره السماع إلا ما كان منه في الأوصاف فأما ، الحداء وذكر الأطلال والمرابع وتحسين الصوت بألحان الأشعار فمباح .

وحيث قال إنه لهو مكروه يشبه الباطل فقوله : لهو ، صحيح .

ولكن اللهو من حيث إنه لهو ليس بحرام فلعب الحبشة ورقصهم لهو ، وقد كان صلى الله عليه وسلم ينظر إليه ولا يكرهه .

بل اللهو واللغو لا يؤاخذ الله تعالى به إن عنى به أنه فعل ما لا فائدة فيه .

، فإن الإنسان لو وظف على نفسه أن يضع يده على رأسه في اليوم مائة مرة فهذا عبث لا فائدة له ولا يحرم .

قال الله تعالى : لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم فإذا كان ذكر اسم الله تعالى على الشيء على طريق القسم من غير عقد عليه ولا تصميم والمخالفة فيه مع أنه لا فائدة فيه لا يؤاخذ فكيف يؤاخذ به بالشعر والرقص .

وأما قوله : يشبه الباطل فهذا لا يدل على اعتقاد تحريمه بل لو قال : هو باطل صريحا .

لما دل على التحريم وإنما يدل على خلوه عن الفائدة ، فالباطل ما لا فائدة فيه .

فقول الرجل لامرأته مثلا بعت نفسي منك وقولها اشتريت عقد باطل مهما كان القصد اللعب والمطايبة وليس بحرام إلا إذا قصد به التمليك المحقق منع الشرع منه .

وأما قوله مكروه فينزل بعض المواضع التي ذكرتها لك أو ينزل على التنزيه فإنه نص على إباحة لعب الشطرنج وذكر أني أكره لعب ، وتعليله يدل عليه ، فإنه قال ليس ذلك من عادة ذوي الدين والمروءة .

فهذا يدل على التنزيه .

ورده ، الشهادة بالمواظبة عليه لا يدل على تحريمه أيضا بل قد ترد الشهادة بالأكل في السوق وما يحرم المروءة بل الحياكة مباحة وليست من صنائع ذوي المروءة ، وقد ترد شهادة المحترف بالحرفة الخسيسة فتعليله يدل على أنه أراد بالكراهة التنزيه .

وهذا هو الظن أيضا بغيره من كبار الأئمة .

وإن أرادوا التحريم فما ذكرناه حجة عليهم .

التالي السابق


(العارض الخامس: أن يكون الشخص من عوام الخلق ولم يغلب عليه حب الله تعالى فيكون السماع عليه محبوبا ولا غلبت عليه شهوة) بحكم الشيخوخة، (فيكون في حقه محظورا ولكنه أبيح في حقه كسائر أنواع اللذات المباحة) وأراد بالعوام هنا غير أهل المعرفة بالله تعالى فدخل فيه علماء الدنيا بسائر فنونهم، والمتكلمون على العلوم الغريبة والمشتغلون بالتدريس والتصنيف، وقال القاضي حسين في تعليقه: الناس في السماع على ثلاثة أضراب: العوام [ ص: 511 ] والزهاد والعارفون، فأما العوام فحرام عليهم لبقاء نفوسهم، وأما الزهاد فيباح لهم لحصول مجاهداتهم، وأما أصحابهم فيستحب لهم حياة قلوبهم (إلا أنه إذا اتخذه ديدنه) أي: عادته (وهجيراه) أي: طريقته (وقصر عليه أكثر أوقاته) وفي نسخة: "وقضى" بدل "وقصر"، (فهذا هو السفيه الذي ترد شهادته) ، وهذا السياق أشار به إلى قول من قال بالتفرقة بين القليل من الغناء والكثير فأجاز القليل وحظر الكثير .

وقد حكاه الرافعي وجها في مذهب الشافعي عن رواية أبي الفرج البزاز، وفي شرح مختصر المزني للقاضي أبي علي بن أبي هريرة ما يقتضي أنه مذهب الشافعي، فإنه لما حكى اختلاف العلماء في الحظر والإباحة قال: والشافعي لا يبيحه يعني: مطلقا، قال: ويقول: إن كان كثيرا دخل في باب السفه، وقال الحافظ أبو بكر بن المنذر في الإشراف: قال الشافعي: وإذا كان الرجل يدمن الغناء ويشتغل به فهو في منزلة السفه، وقال الصيمري في شرح الكفاية: وأما الرجل يشعر في بيته أو مع من يستأنس به في وقت دون وقت تطربا فلا يمنع، وقال القاضي حسين في تعليقه: قال الشافعي في الكبير: إذا كان الرجل يغني على الأدوار فهو سفيه، أما إذا كان يغني أحيانا وحده أو مع صديق له استئناسا فلا ترد شهادته، وقال أبو حامد محمد بن إبراهيم الجاجرمي في كفايته: ولا يحرم اليراع والدف مع الجلاجل في وجه، وكذا الغناء وسماعه والرقص إلا إذا داوم عليها، وقال الماوردي في الحاوي: ولم يزل أهل الحجاز يترخصون فيه وهم في عصر العلماء، وجلة الفقهاء لا ينكرون عليهم ولا يمنعونهم عنه إلا في حالين: أحدهما: الإكثار منه والانقطاع إليه، والثاني: أن يكون فيه مكروه، وإيراد الحليمي في منهاجه يقتضيه .

(فإن المواظبة على اللهو جناية، وكما أن الصغيرة بالإصرار عليها والمداومة تصير كبيرة، فكذلك بعض المباحات بالمداومة يصير صغيرة) قال الرافعي: والرجوع في المداومة والإكثار إلى العرف ويختلف باختلاف الأشخاص فيستقبح من شخص قدر لا يستقبح من غيره .اهـ. واختلف في الإصرار على الصغيرة هل هو تكرارها أو الإتيان بأنواع كما سيأتي في كتاب التوبة .

(وهو كالمواظبة على متابعة الزنوج والحبشة والنظر إلى لعبهم على الدوام، فإنه ممنوع وإن لم يكن أصله ممنوعا إذ فعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن هذا القبيل اللعب بالشطرنج فإنه مباح، ولكن المواظبة عليه مكروهة كراهة شديدة) وسيأتي قريبا ما يتعلق به، (ومهما كان لغرض اللعب والتلذذ باللهو، فإن كان إنما يباح لما فيه من ترويح القلب) واستئناس النفس (إذ راحة القلب معالجة له في بعض الأوقات لتنبعث دواعيه) وتقوم بواعثه (فيشتغل في سائر الأوقات بما يجدي) أي: ينفع، وفي نسخة: بالجد (في الدنيا كالكسب والتجارة، أو في الدين كالصلاة والقراءة واستحسان ذلك في تضاعيف الجد) أي: الاجتهاد، (كاستحسان الخال) وهي الشامة السوداء (على الخد لو استوعبت الخيلان الوجه لشوهته فما أقبحه) ، وفي نسخة: فما أقبح ذلك، (فيعود ذلك الحسن قبيحا لسبب الكثرة، فما كل حسن يحسن بكثيره ولا كل مباح يباح كثيره بل الخبز) الذي به قوام البدن (مباح) أكله (والاستكثار منه حرام) إذا كان يستضر به، وكذا شراب الرمان مباح شربه وهو شفاء والاستكثار منه مضر بالمعدة .

(فهذا المباح كسائر المباحات) ، وهذا الذي ذكره المصنف صحيح من جهة القياس، وقد ناقضه صاحب الإمتاع من أصله فقال: وأما من فرق بين القليل والكثير فغير متجه ولا دليل له، والقياس أن المباح قليله يباح كثيره إلا أن يدل الدليل كسائر المباحات، وقد كان عبد الله بن جعفر يستكثر منه، وتعلم الصحابة منه ذلك كما تقدم، قال: وأما قول الغزالي: إن بعض المباحات يصير بالمداومة صغيرة فغير مسلم ولا أعرف هذا لأحد من الأصحاب، والمسألة فيها ثلاثة أوجه: الصحيح على ما هو مشهور، وفي المذهب الكراهة مطلقا، والثاني: الإباحة، والثالث: التحريم، وهذه التفرقة لا نعرفها فإن كان قد قيل بها قد لا نسلم، وشرط القياس الاتفاق على الأصل، وما ذكره من القياس على الصغيرة أنها تصير كبيرة فليس القياس صحيحا; فإن المرتكب للصغيرة مرتكب لشيئين أحدهما ما طلب الشارع تركه في كل زمن، والثاني استمراره وهو في كل زمن منته عن التلبس به فصار كبيرة لمخالفته أولا واستمراره على [ ص: 512 ] المخالفة، وهو مأمور بالترك، وواجب عليه التوبة فصارت الصغيرة كبيرة بالاستمرار، ولقائل أيضا أن يقول قولا ما ورد من كون الصغيرة تصير كبيرة بالإصرار لم يقل به وأما المباح فلا خبر .

وإن المعنى الذي أبديناه موجود فيه فبطل القياس، ولو قيل إن بعض المباحات يصير بالمداومة مكروها لا يمكن أن يكون له وجه، فإن الاشتغال بالمباحات وترك ما هو أنفع منها في الآخرة تفريط، والإنسان مطلوب منه الاشتغال في كل وقت بالطاعات بحسب القدرة، قال الله تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون وإذا صرف أكثر وقته النفيس إلى المباح كان تاركا للأولى، ولا نعني بالكراهة هنا إلا ترك الأولى إلا أنه يقال: إن الشارع قد أوجب وحرم وكره وندب وأباح، فإذا أتى الإنسان بالواجب عليه وترك المحرم عليه والمكروه في حقه لا يذم بوجه من الوجوه إذا استكثر من المباحات، وظاهر قوله -صلى الله عليه وسلم- للأعرابي: أفلح إن صدق، وإن صدق ليدخلن الجنة. يقتضي أن من قام بالواجبات لا عيب ولا ذم عليه . اهـ .

(فإن قلت: فقد أدى مساق هذا الكلام إلى أنه مباح في بعض الأحوال دون بعض) ولبعض الأشخاص دون بعض (فلم أطلقت القول أولا بالإباحة) أي: أنه مباح مطلقا (وإطلاق القول في الفصل) أي: فيما فيه تفصيل عند الأئمة (بلا أو نعم خلف وخطأ فاعلم أن هذا غلط) نشأ عن قلة التأمل؛ (لأن الإطلاق إنما يمتنع) حمله (لتفصيل ما ينشأ من غير ما فيه النظر، فأما ما ينشأ من الأحوال العارضة المتصلة به من خارج فلا يمنع الإطلاق ألا ترى إذا سئلنا عن العسل) المعروف الذي يمجه النحل (أهو حلال أم لا؟ قلنا: إنه حلال على الإطلاق مع أنه حرام على المحرور) أي: من كان مزاجه حارا دمويا (الذي يستضر به) لمخالفة مزاجه، وكذا الصفراوي الذي غلب عليه خلط الصفراء فإنه يحركه ويستضر به أيضا، (وإذا سألنا عن الخمر) أي: عن شربها (قلنا: إنه حرام مع أنها تحل) في بعض الأحيان، وذلك (لمن غص بلقمة أن يشربها مهما لم يجد غيرها ولكن هو ومن حيث إنه خمر حرام، وإنما أبيح لعارض الحاجة) في بعض الأوقات، (والعسل من حيث إنه عسل حلال، وإنما حرم لعارض الضرر) لبعض الأشخاص، (وما كان لعارض فلا يلتفت إليه، فإن البيع حلال ويحرم لعارض الوقوع في وقت النداء يوم الجمعة) كما تقدم الكلام عليه في باب الجمعة من كتاب الصلاة .

(وجملة من العوارض) وفي بعض النسخ: ونحوه من العارض (والسماع من جملة المباحات من حيث إنه صوت موزون طيب مفهوم، وإنما تحريمه لعارض خارج عن حقيقة ذاته، وإذا انكشف الغطاء عن دليل الإباحة فلا يبالى بمن يخالف عند ظهور الدليل، وأما الشافعي) -رضي الله عنه- (فليس تحريم الغناء من مذهبه أصلا) قال صاحب الإمتاع: وتتبعت أنا عدة كثيرة من المصنفات فلم أر له نصا في تحريمه، وطالعت جملة من الأم والرسالة وتصانيف متقدمي الأصحاب ومتوسطيهم ومتأخريهم فلم يحك أحد عنه التحريم بل حكى عنه الأستاذ أبو منصور البغدادي أن مذهبه إباحة السماع بالقول والألحان إذا سمعه الرجل من رجل أو من جاريته أو من امرأة يحل له النظر إليها متى سمعه في داره، وفي دار بعض أصدقائه ولم يسمعه على قارعة الطريق ولم يقترن سماعه بشيء من المنكرات، ولم يضيع مع ذلك أوقات الصلاة عن أدائها فيها ولم يضيع شهادة لزمه أداؤها.اهـ .

(وقد نص الشافعي) -رضي الله عنه- في كتاب آداب القضاء من الأم (وقال في الرجل يتخذه صناعة) يحترف بها (لا تجوز شهادته) ولفظ الأستاذ أبي منصور: إن الشافعي نص في بعض كتبه على أن الذي يحرم من الغناء ما يغني به القوال والقينة على جعل مشروط لا يغنى إلا به . اهـ. (وذلك أنه من اللهو والمكروه الذي يشبه الباطل، ومن اتخذه صناعة كان منسوبا إلى السفاهة وسقوط المروءة وإن لم يكن محرما بين التحريم، فإن كان لا ينسب نفسه إلى الغناء ولا يؤتى لذلك ولا يأتي لأجله، وإنما يعرف بأنه قد يطرب في الحال فيترنم فيها لم يسقط هذا [ ص: 513 ] مروءته ولم تبطل شهادته، واستدل بحديث الجاريتين اللتين كانتا تغنيان في بيت عائشة رضي الله عنها) .

وقد تقدم شيء من هذا قريبا عند قوله: فهذا هو السفيه الذي ترد شهادته، وأزيد على ما ذكرته هناك في حكم قبول شهادة المغني والمستمع وردها، فالذي ظهر من كلام الشافعي أن من اتخذ الغناء صنعة وحرفة لم تقبل شهادته وهذا لا خلاف فيه بين أئمة المذاهب المتبوعة إلا ما سيذكر بعد، وإيراد الظاهرية وغيرهم ممن يبيح الغناء يقتضي القبول، وإن لم يتخذه صنعة ولا يدمن عليه فشهادته مقبولة، قال الرافعي في الكبير: وإذا كان الرجل يغني أحيانا وحده أو مع صديق يستأنس به لا ترد شهادته، وقال ابن أبي هريرة في شرح المختصر: إذا قلل من الغناء فهذا يسير لا ترد به الشهادة، وقال الصيمري في شرح الكفاية: إذا كان الرجل يشعر في بيته أو مع من يستأنس به في وقت دون وقت تطرأ به فلا ترد شهادته، واحتج بأن عبد الرحمن بن عوف استأذن على عمر -رضي الله عنهما- فسمعه يتغنى .

وقال الماوردي في الحاوي: من باشر الغناء بنفسه فله ثلاثة أحوال: أحدها: أن يصير منسوبا إليه ويسمى به فيقال: له المغني يأخذ على غنائه أجرا، يدعونه الناس إلى دورهم لذلك ويقصدونه في داره لذلك، فهو سفيه ترد شهادته; لأنه قد تعرض لأخس المكاسب ونسب إلى أقبح الأسماء، الحال الثاني: يغني لنفسه إذا خلا في داره بالتستر استرواحا، فهذا مقبول الشهادة، فإن قرب بغنائه من الملاهي ما حظرناه نظر فإن خرج صوته عن داره حتى سمع منها كان سفيها ترد شهادته، الحال الثالث: أن يغني إذا اجتمع مع إخوانه ليستروحوا بصوته وليس بمنقطع إليه، نظر فإن صار مشهورا يدعوه الناس لأجله كان سفيها ترد به الشهادة، وإن لم يصر مشهورا به ولا يدعوه الناس لأجله نظر فإن كان مظاهرا به ومعلنا به ردت شهادته، وإن كان متسترا لم ترد شهادته . اهـ .

وقال غيره: إذا كان يدمن الغناء ردت شهادته، حكاه جماعة عن نص الشافعي منهم القاضي حسين، وقيده ابن أبي هريرة في شرح المختصر بما إذا أعلن به وكان يغشاه المغنون، ولفظ مختصر المزني: إذا كان الرجل يديم الغناء ويغشاه المغنون معلنا بذلك ردت شهادته، وإن قل فلا ترد فشرط الدوام والإتيان له والتظاهر، ونقل القاضي حسين عن نص الشافعي: إذا كان يغني وحده أو مع صديق استئناسا فلا ترد شهادته، وقال الرافعي بعد ذكر المداومة على لعب الشطرنج: وكذا إذا داوم على الغناء وكان الناس يأتونه له لم تقبل شهادته، وفي الإبانة للفوراني: إنه إذا اتخذه كسبا أو أدام الغناء أو شبب بامرأة أو غلام ردت شهادته، وإلا فلا. فهذا ما تلخص من مذهب الشافعي -رضي الله عنه- .

(وقال يونس بن عبد الأعلى) بن ميسرة أبو موسى الصدفي المصري ثقة مات سنة أربع وستين ومائتين، وروى له مسلم والنسائي وابن ماجه (سألت الشافعي عن إباحة أهل المدينة السماع فقال الشافعي: لا أعلم أحدا من علماء الحجاز) ، وفي بعض النسخ: لا أعلم من علماء الحجاز (من كره السماع إلا ما كان منه في الأوصاف، وأما الحداء وذكر الأطلال والمرابع وتحسين الصوت بألحان بالأشعار فمباح) نقله الحافظ أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي في صفوة التصوف بسنده إلى الإمام أبي خزيمة، قال: سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول: سمعت الشافعي يقول وقد سألته عن إباحة أهل المدينة السماع فذكره، (وحيث قال) الشافعي في آداب القضاء من الأم (إنه لهو مكروه يشبه الباطل) ، وقد نقله عنه غير واحد هكذا منهم القاضي أبو الطيب الطبري كما تقدم في أول هذا الكتاب (فقوله: لهو، صحيح، ولكن اللهو من حيث إنه لهو ليس بحرام فلعب الحبشة) في المسجد بين يديه -صلى الله عليه وسلم- (ورقصهم لهو، وقد كان -صلى الله عليه وسلم- ينظر إليه ولا يكرهه) ، وفي نسخة: فلا يكرهه، (بل اللهو واللغو لا يؤاخذ الله به إن عنى به أنه فعل ما لا فائدة فيه لا يؤاخذ به، فكيف يؤاخذ بالشعر والرقص، فإن الإنسان لو وظف على نفسه أن يضع يده على رأسه في اليوم مائة مرة فهذا عبث لا فائدة له ولا يحرم) ذلك (قال الله تعالى: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم فإذا كان ذكر اسم الله تعالى على الشيء) أي: على طريق القسم من غير عقد عليه ولا تصميم (والمخالفة فيه مع أنه لا فائدة فيه لا يؤاخذ به فكيف يؤاخذ بالشعر والرقص) ، وأما المستمع فقال الماوردي: له ثلاثة أحوال: أحدها: أن يصير منقطعا إليه فترد شهادته، الثاني: [ ص: 514 ] أن يقل من استماعه فهو على شهادته إذا لم يقصد غناء امرأة غير ذات محرم، الثالث: أن يتوسط بين الكثرة والقلة، فإن اشتهر به وانقطع به عن أشغاله كان مردود الشهادة وإلا فهو على عدالته وقبول شهادته . اهـ .

وقال صاحب البيان: أما سماع الغناء فإن كان يغشى بيوت المغنين أو يستدعيهم إلى منزله ليغنوا له فإن كان في خفية لم ترد شهادته، وإن أكثر من ذلك ردت شهادته، وقال الجرجاني في تحريره: ولا تقبل شهادة المشهور بسماع الغناء، وقال المحاملي في التجريد: إذا كان الرجل يسمع الغناء فإن كثر ذلك منه واشتهر به وصار الناس يدعونه إلى الغناء ويدعوهم هو إليه ردت شهادته، وإن كان يفعله نادرا ولم يكثر لم ترد. وجعل صاحب الإبانة حكم المستمع حكم المغني فيفرق بين المداومة وغيرها، وقال الطبراني في العدة وابن أبي عصرون في الانتصار: إذا كان الرجل يسمع الغناء ويقصد له، فإن كان في خفية لم ترد شهادته، وإن كان متظاهرا، فإن كان نادرا لم ترد وإن كثر ردت، وأما من يقتني الجواري والغلمان للغناء فحكى ابن المنذر في الإشراف عن الشافعي أنه قال: إن كان يجمع عليهما الناس ويغشى لذلك، أو كان لذلك مدمنا وكان يشتغل بهم، فهو منزلة سفه ترد به الشهادة، وحكى ابن أبي هريرة في شرح المختصر عن الشافعي أنه قال: ولو كان يجمع الناس لسماع جاريته فليس هذا من الديانة، ولو قيل: إن شهادة من يستمع إليها ساقطة لصلح، وحكى المحاملي في التجريد عن الأم أنه إذا اشترى غلاما مغنيا أو جارية مغنية، فإن كان يدعو الناس لسماعه ردت شهادته، والجارية في ذلك أشد من الغلام، وكذا صاحب البيان وإن كان يسمع وحده لم ترد شهادته، وقال القاضي حسين في تعليقه: ولو اشترى مغنية لتغني للناس ردت شهادته، فأما إذا اشتراها لتغني له أحيانا على الأدوار لم ترد شهادته .

وقال الماوردي في الحاوي: أما مقتني الجواري والغلمان المغنين فله ثلاثة أحوال: أحدها: أن يصير بهم مكتسبا ومقصودا لأجلهم، إما أن يدعوه الناس إلى دورهم، وإما أن يقصدوه في داره لأجلهم فهذا سفيه ترد شهادته، وحاله في الجواري أغلظ من الغلمان. الحال الثاني: أن يقتني ذلك لنفسه ليسمع غناءهم إذا خلا مستترا غير مكاثر ولا مجاهر فهو على شهادته، الثالث: أن يدعو من يشاركه في السماع، فإن كان يدعوهم لأجل السماع ردت شهادته، وإن كان دعاهم لغير الغناء وأسمعهم، نظر، فإن كثر حتى اشتهر به ردت شهادته، وإن قل ولم يشتهر فإن كان الغناء من الغلام لم ترد شهادته، وإن كان من جارية نظر، فإن كانت حرة ردت شهادته، وإن كانت أمة فيحتمل إجراؤها مجرى الغلام لنقصها عن الحرة، ويحتمل إجراؤها مجرى الحرة لزيادتها على الغلام فترد الشهادة، فهذا ما لخصناه من مذهب الشافعي.

(وأما قوله: يشبه الباطل فهذا) أيضا (لا يدل على اعتقاده التحريم بل لو قال: هو باطل صريحا، لما دل على التحريم وإنما يدل على خلوه عن الفائدة، فالباطل ما لا فائدة فيه) والمباح لا فائدة فيه، (فقول الرجل لامرأته بعت نفسي منك وقولها اشتريت عقد باطل مهما كان القصد) بذلك (اللعب والمطايبة وليس بحرام إلا إذا قصد بذلك التمليك المحقق الذي منع الشرع منه، وأما قوله مكروه) فيجوز أن يريد به أن تركه أولى، والمكروه يطلق بالاشتراك على المحظور والمنهي عنه نهي تنزيه وعلى ترك الأولى (فينزل على بعض المواضع التي ذكرتها) ، وهو ما اقترن به فحش أو منكر، ويكون التحريم لعرض لا لمعنى في الغناء، (أو ينزل على التنزيه) كما هو مذهبه، أو على ترك الأولى، وبالجملة فقد صح من قوله أو فعله ما هو صريح في الإباحة، وليس له نص في التحريم (فإنه نص) في الأم (على إباحة لعب الشطرنج وذكر أني أكره كل لعب، وتعليله يدل عليه، فإنه ليس ذلك من عادة ذوي الدين والمروءة، فهذا) كما لا يخفى (يدل على التنزيه، ورد الشهادة على المواظبة عليه) كما تقدم النقل فيه (لا يدل على تحريمه أيضا بل قد ترد الشهادة بالأكل في السوق وما يحرم المروءة) ترد به الشهادة، (بل الحياكة مباحة وليست من صنائع ذوي المروءة، وقد ترد شهادة المحترف بالحرفة الخسيسة) كالحجامة والكناسة، (وتعليله يدل على أنه أراد بالكراهة التنزيه) قال صاحب الإمتاع: وههنا نظر آخر، وهو أن من يبيح الغناء أو يكرهه جعل المدرك في رد الشهادة ترك المروءة، ومن لا تقبل شهادته لكونه تاركا للمروءة إذا شهد بمال يسير قبلت شهادته، وإن كان كثيرا وهو مما لا يحتاج فيه إلى الإشهاد [ ص: 515 ] كالإتلافات ونحوها تقبل شهادته فيها، هكذا قال القاضي حسين في تعليقه ولم يحك خلافا فيه، فشهادة تارك المروءة حينئذ لا ترد مطلقا .

وقال ابن حزم: اشتراط المروءة إن كان من جملة الطاعات فقد اندرج فيها، وإن كان غير ذلك فاشتراط فضول لا دليل عليه، وحكى الماوردي أيضا ما يخل بالمروءة منه ما تركه شرط، ومنه ما يختلف في اشتراطه، وحكى أربعة أوجه في المشي حافيا والبول قائما في الماء الراكد وحمل الطعام؛ حيث لم تجر العادة بمثله ونحو ذلك فافهم ذلك. ثم العجب من قولهم: إنه يحل بالمروءة وأي إخلال لمن سمع أو فعل وكان ممن يليق به، والأصح أن شهادة أصحاب الحرف الدنية تقبل من غير اعتبار من يليق به من غيره، فغايته أن يكون هذا تعاطى حرفة دنية، ثم الأصح أن من داوم على نوع من المعاصي لا ترد له شهادته، فليكن كذلك من تعاطى نوعا منها يخل بالمروءة، وقد قال الشافعي: لا نعرف أحدا يمحض الطاعة والمروءة حتى لا يخلطهما بغيرهما، فمن كان الغالب عليه الطاعات والمروءة قبلت شهادته .

(وهذا) أي: حل الكراهة على التنزيه (هو الظن أيضا بغيره من كبار الأئمة) جمعا بين الأقوال المتضادة تارة، وتارة جمعا بين القول والفعل، (وإن أراد التحريم) أو فهم ذلك من نصوصهم (فما ذكرناه حجة عليهم) ، فأما أبو حنيفة -رحمه الله تعالى- فقد تقدم عندما دل على إباحته عنده وما ورد عنه خلافه يحمل على الغناء المقترن بشيء من الفحش ونحوه جمعا بين القول والفعل على أن التحريم أخذ من مقتضى قوله لا من نصه، ولا دلالة فيما أخذ عنه لاحتماله وجوها ومذهبه في إطلاق الكراهة على التحريم أو التنزيه مشهور، فقد تقدمت الإشارة إليه مرارا .

وأما الإمام مالك -رحمه الله تعالى- فقد تقدم عنه أيضا ما يدل على إباحته عنده، وحكى ذلك عنه القشيري والأستاذ أبو منصور والقفال وغيرهم، ولا نص له في تحريمه، وإنما أخذ من قوله: إنه لا يصح بيع الجارية المغنية على أنها مغنية، وقد تقدم الكلام عليه وهو محتمل، وما نقل عنه بالإسناد أنه سئل عنه فقال: إنما يسمعه الفساق محتمل كذلك، وأنه لا يجوز محمول على ما يقترن به منكر ونحوه جمعا بين النقول التي قدمناها، وأيضا فقوله: إنما يسمعه الفساق، معناه: الذين نعدهم أو نعرفهم يسمعونه عندنا وصفهم، كذا فلا يدل على أنه أراد التحريم كما إذا قلت: ما قولك في المتفرجين في البحر فيقول: إنما يفعله عندنا أهل اللعب وأهل الفساد، فلا دليل على تحريم فرجة البحر .

وأما الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- فقد تقدم ما يدل على أنه صح عنه سماع الغناء عند ابنه صالح، وقد قال أبو حامد: إن فعله يضاف إليه مذهبا يكون كالقول، وما ورد عنه مخالفا لهذا محمول على الغناء المذموم المقترن به ما يقتضي المنع منه. وقد كان أبو بكر الخلال وصاحبه عبد العزيز يحملان الكراهة من أحمد على غناء يقترن به ما يقتضي الكراهة، وأما أخذه ذلك من كسب المخنث على تقدير تسليم أن كسبه بالغناء فلا يدل; لأن أكثر من قال بإباحة الغناء أطلق القول بمنع أخذ الأجرة على الغناء، وقد يجوز الشيء ويمتنع مقابله بالعوضية لمعنى آخر، وكيف يصح استنباط ذلك من مقتضى قوله وفعله يخالف؟ وقد علل هو المنع بأنه كان يقول: إنه يقترن به منكر .

وقول ابن الجوزي: إنه يحمل فعله وقوله على ما كان يغني به من القصائد الزهديات دون غيره، وابن الجوزي غلب عليه الوعظ والرواية والفقيه الغواص له مرتبة أخرى، والله أعلم .




الخدمات العلمية