الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وأما القياس فغاية ما يذكر فيه أن يقاس على الأوتار ، وقد سبق الفرق أو يقال هو لهو ولعب وهو كذلك ولكن الدنيا كلها لهو ولعب .

قال عمر رضي الله عنه لزوجته إنما أنت لعبة في زاوية البيت .

وجميع الملاعبة مع النساء لهو إلا الحراثة التي هي سبب وجود الولد .

وكذلك المزح الذي لا فحش فيه حلال .

نقل ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة كما سيأتي تفصيله في .

كتاب آفات اللسان إن شاء الله .

وأي لهو يزيد على لهو الحبشة والزنوج في لعبهم ، وقد ثبت بالنص إباحته على أني أقول : اللهو مروح للقلب ومخفف عنه أعباء الفكر والقلوب إذا أكرهت عميت وترويحها إعانة لها على الجد فالمواظب على التفقه مثلا ينبغي أن يتعطل يوم الجمعة لأن عطلة يوم تبعث على النشاط في سائر الأيام والمواظب على نوافل الصلوات في سائر الأوقات ينبغي أن يتعطل في بعض الأوقات ولأجله كرهت الصلاة في بعض الأوقات .

فالعطلة معونة على العمل واللهو معين على الجد ولا يصبر على الجد المحض والحق المر إلا نفوس الأنبياء عليهم السلام .

فاللهو دواء القلب من داء الإعياء والملال فينبغي أن يكون مباحا ولكن لا ينبغي أن يستكثر منه كما لا يستكثر من الدواء فإذا اللهو على هذه النية يصير قربة هذا في حق من لا يحرك السماع من قلبه صفة محمودة يطلب تحريكها بل ليس له إلا اللذة والاستراحة المحضة ، فينبغي أن يستحب له ذلك ليتوصل به إلى المقصود الذي ذكرناه .

نعم هذا يدل على نقصان عن ذروة الكمال ، فإن الكامل هو الذي لا يحتاج أن يروح نفسه بغير الحق ولكن حسنات الأبرار سيئات المقربين ومن أحاط بعلم علاج القلوب ووجوه التلطف بها لسياقتها إلى الحق علم قطعا أن ترويحها بأمثال هذه الأمور دواء نافع لا غنى عنه .

التالي السابق


(وأما القياس فغاية ما يذكر فيه أن يقاس على الأوتار، وقد سبق الفرق) قريبا (أو يقال) في الاستدلال به على التحريم ما هو ملتحق بنوعي الكتاب والسنة وهو أن نقول (هو) أي: الغناء المطرب (لهو ولعب) ، والأصل فيهما التحريم، فالغناء على التحريم أما المقدمة الأولى فواضحة وإليه أشار بقوله (وهو كذلك) فإن الغناء المطرب يحمل على اللهو وينتهي به من غيره لشدة التذاذ النفس به وسرورها وفرحها به حتى يكون عن ذلك مجون وعبث، كالاهتزاز والرقص وغير ذلك من أحوال المجانين والسفهاء وهو المعني باللعب، وهذا كله مشاهد بحيث لا يمنع ولا ينكر .

وأما المقدمة الثانية فيدل عليه أمران: أحدهما: الكتاب، والثاني: السنة. فالأول: ما في كتاب الله من ذم اللعب واللهو في غير موضع كما تقدم وجه التمسك بهذا الأسلوب أن الله تعالى ذكر اللهو واللعب في تلك المواضع على جهة أن يذم بهما ما حملا عليه فيلزم أن يكونا مذمومين إذا لا يذم بوصف مدح، والوصف المذموم شرعا محرم شرعا، فيلزم أن يكون اللهو واللعب محرما شرعا ثم إن اللعب واللهو من أسماء الأجناس، فيلزم الذم بجنسهما وهو الذي أردناه. الأمر الثاني: السنة، وهما حديثان أحدهما ما خرجه الترمذي وغيره: كل لهو يلهو به الرجل باطل. الحديث، وقد تقدم ذكره وتقدم وجه التمسك به، والحديث الثاني: هو الحديث المشهور: لست من دد ولا الدد مني.

قال مالك: الدد اللهو واللعب، وما كان كذلك كان محرما; لأنه قد تبرأ منه النبي -صلى الله عليه وسلم- فظهر أنه حرام. هذا تقرير هاتين المقدمتين من جانب المحرمين، والجواب عنه منع المقدمتين فإن من الناس من يقول: إن الغناء ليس لهوا ولعبا، وإنما فيه تفصيل، وقد أجاب المصنف عن ذلك بعد تسليمه للمقدمة الأولى بقوله وهو كذلك فقال: (ولكن الدنيا كلها لهو ولعب) أي: لا نسلم أن اللهو واللعب محرم فإن الدنيا لهو ولعب وأكثر ما فيها من المآكل والمشارب والمناكح والمساكن الحسنة وكثرة الخدم والرياسات، وما لا يقبله الحصر كذلك .

(قال عمر) بن الخطاب (رضي الله عنه لزوجته) وقد كلمته في واقعة وعارضته (إنما أنت لعبة في زاوية البيت) ، وقد تقدم تمامه في كتاب النكاح وفي كتاب "ألف با" لأبي الحجاج البلوي ما لفظه: تكلمت نسوة بحضرة عمر [ ص: 530 ] فقال لهن اسكتن: فإنما أنتن اللعب فإذا فرغ لكن لعب بكن (وجميع الملاعبة مع النساء لهو إلا الحراثة التي هي سبب وجود الولد) فإنه خارج عنه .

(وكذلك المزح الذي لا فحش فيه فيه حلال نقل ذلك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) يأتي في آفات اللسان (و) نقل (عن الصحابة) رضوان الله عليهم (كما سيأتي تفصيله في كتاب آفات اللسان) إن شاء الله تعالى (وأي لهو يزيد على لهو الحبشة والزنوج في لعبهم، وقد ثبت بالنص إباحته) واحتجوا به على المقدمة الثانية فلا حجة فيه أيضا، فإن الآيات التي ذكروها منها قوله: الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا فإن الذم فيها لمن اتخذ دينه كذلك، وليس من غنى أو سمع الغناء اتخذ دينه كذلك، ومنها قوله تعالى: إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وقوله تعالى: وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب فلا نسلم أن ذلك ذم وإنما هو إخبار عن حالها وإن هذه صفتها، ومنها قوله تعالى: وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب فلا نسلم أن ذلك ذم وإنما هو إخبار عن حالها، وإن هذه صفتها ومنها قوله تعالى: إنما كنا نخوض ونلعب وكذا قوله تعالى: فذرهم يخوضوا ويلعبوا فإن فيها تهديدا لمن خاض ولعب واشتغل عن الآخرة وما يقرب إلى الله تعالى فذموا على سلوك هذا الطريق ومنه: ذرهم يأكلوا ويتمتعوا فليس ذلك ذما للأكل والتمتع ولم يقل: إن ذلك حرام، فاللهو من حيث هو ليس بحرام كيف وقد كانت الأنصار يحبون اللهو ولا يمتنعوا من محبته بل أقروا عليه في قوله -عليه السلام-: أما علمت أن الأنصار يعجبهم اللهو، فلو بعثت معها بغناء. كما تقدم .

وقول الصحابة لما قيل لهم: ما هذا؟ قالوا: نلهو، ولو كان ذلك حراما لما أجابوا به، وحرص عائشة على اللهو كما قالت: فاقدروا قدر الجارية السن الحريصة على اللهو، وقد وقف لها - صلى الله عليه وسلم- حتى نظرت إلى لعب الحبشة زمانا طويلا، وكذلك رقص الحبشة إنما كان لهوا ولعبا، وأما ما استدلوا به من الحديثين فلا يدلان أيضا، أما الحديث الأول وهو قوله: كل شيء يلهو به الرجل باطل. فقد تقدم الكلام عليه قريبا، وذكرنا أن الباطل ما لا فائدة فيه، وغالب المباحات لا فائدة فيها بل المباح من حيث هو هو لا فائدة فيه، فإنه المستوي الطرفين، وأما الحديث الثاني فالدد مختلف فيه عن الخليل أنه النقر برءوس الأصابع في الأرض، فلا دلالة له حينئذ على الغناء، وقيل: هو اللعب بمعزفة فلا دلالة له أيضا، وقيل: هو اللهو، فإذا كان مختلفا في موضوعه لم يستدل به، ثم يستدل به بتقديم تسليم أنه اللهو فلا دلالة فيه، فإن التبرية وقعت في لفظ الشارع بإزاء معان الخروج عن الملة وهو نادر جدا، وإرادة التحريم كقوله: ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب، وأمثال ذلك واردة ليس على طريقتنا ولم يرد التحريم كقوله: ليس منا من لم يتغن بالقرآن، وأمثال ذلك كثيرة، ويدل على أنه ليس المراد التحريم ما قدمناه من الأدلة المقتضية لإباحته .

(على أني أقول: اللهو) في الجملة (مروح للقلب ومخفف عنه أعباء الفكر) أي: أثقاله (والقلوب إذا كرهت) واضطرت إلى ما لا تطيقه (عميت) عن درك الحقائق كما في قول علي -رضي الله عنه- (وترويحها) باللهو (إعانة لها على الجد) في الأعمال (فالمواظب على التفقه مثلا ينبغي أن يتعطل يوم الجمعة) كما هو اختيار أكثر البلاد، وفي بعضها يوم الثلاثاء كما هو اختيار بلاد الروم؛ (لأن عطلة تبعث النشاط) وتهيجه (في سائر الأيام) أي: في بقيتها (والمواظب على نوافل الصلوات في سائر الأوقات ينبغي أن يتعطل في بعض الأوقات ولأجله كرهت في بعض الأوقات) كما تقدم ذلك مفصلا في كتاب الصلاة، (فالعطلة معونة على العمل واللهو معين على الجد) . وقد أشرت إلى ذلك في شرح حديث أم زرع: (ولا يصبر على الجد والحق المر إلا أنفس الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-) لما أعطوا من قوة المقام والحال، (فإذا اللهو على هذه النية يصير قربة) لا حراما، (هذا في حق من لا يحرك السماع من قلبه صفة محمودة يطلب تحريكها بل ليس إلا اللذة والاستراحة المحضة، فينبغي أن يستحب له ذلك ليتوصل به إلى المقصود الذي ذكرناه، نعم هذا يدل على) نوع (نقصان عن) بلوغ (ذروة الكمال، فإن الكامل) في الحقيقة (هو الذي لا يحتاج أن يروح نفسه بغير الحق) كما هو شأن الأنبياء [ ص: 531 ] الكرام ومن على قدمهم من ورثتهم (ولكن حسنات الأبرار سيئات المقربين) كما قاله سهل التستري (ومن أحاط بعلم علاج القلوب ووجوب التلطف بها لسياقتها إلى الحق علم قطعا أن ترويحها بأمثال هذه الأمور دواء نافع لا غنى عنه) للسالك في طريق الحق .




الخدمات العلمية