فالمستهتر بالمرئي لا التفات له في حال استغراقه إلى رؤيته ولا إلى عينه التي بها رؤيته ، ولا إلى قلبه الذي به لذته فالسكران لا خبر له من سكره والمتلذذ ، لا خبر له من التذاذه ، وإنما خبره من المتلذذ به فقط .
ومثاله العلم بالشيء فإنه مغاير للعلم بالعلم بذلك الشيء فالعالم بالشيء مهما ورد عليه العلم بالعلم بالشيء كان معرضا عن الشيء، ومثل هذه الحالة قد تطرأ في حق المخلوق وتطرأ أيضا في حق الخالق ، ولكنها في الغالب تكون كالبرق الخاطف الذي لا يثبت ولا يدوم وإن ، دام لم تطقه القوة البشرية فربما .اضطرب تحت أعبائه اضطرابا تهلك به نفسه .
كما روي عن أبي الحسن النوري أنه حضر مجلسا فسمع هذا البيت .
ما زلت أنزل من ودادك منزلا تتحير الألباب عند نزوله
فقام وتواجد وهام على وجهه فوقع في أجمة قصب قد قطع وبقيت أصوله مثل السيوف فصار يعدو فيها ويعيد البيت إلى الغداة والدم يخرج من رجليه حتى ورمت قدماه وساقاه وعاش بعد ذلك أياما ومات رحمه الله .فهذه درجة الصديقين في الفهم والوجد فهي أعلى الدرجات ; لأن وهي ممتزجة بصفات البشرية وهو نوع قصور وإنما الكمال أن يفنى بالكلية عن نفسه وأحواله أعني أنه ينساها فلا يبقى له التفات إليها كما لم يكن للنسوة التفات إلى الأيدي والسكاكين . السماع على الأحوال نازل عن درجات الكمال ،
فيسمع لله وبالله وفي الله ومن الله وهذه رتبة من خاض لجة الحقائق وعبر ساحل الأحوال والأعمال واتحد بصفاء التوحيد وتحقق بمحض الإخلاص فلم يبق فيه منه شيء أصلا بل خمدت بالكلية بشريته وفني التفاته إلى صفات البشرية رأسا ولست أعني بفنائه فناء جسده بل فناء قلبه ، ولست أعني بالقلب اللحم والدم بل سر لطيف له إلى القلب الظاهر نسبة خفية وراءها سر الروح الذي هو من أمر الله عز وجل عرفها من عرفها وجهلها من جهلها ، ولذلك السر وجود .
وصورة ذلك الوجود ما يحضر فيه فإذا حضر فيه غيره فكأنه لا وجود إلا للحاضر .
ومثاله المرآة المجلوة إذ ليس لها لون في نفسها بل لونها لون الحاضر فيها ، وكذلك الزجاجة فإنها تحكي لون قرارها ولونها لون الحاضر فيها .
، وليس لها في نفسها صورة بل صورتها قبول الصور ولونها هو هيئة الاستعداد لقبول الألوان ويعرب عن هذه الحقيقة أعني سر القلب بالإضافة إلى ما يحضر فيه قول الشاعر .
رق الزجاج ورقت الخمر فتشابها فتشاكل الأمر
فكأنما خمر ولا قدح وكأنما قدح ولا خمر