المقام الثاني بعد الفهم والتنزيل : الوجد ، وللناس كلام طويل في أعني حقيقة الوجد الصوفية والحكماء الناظرين في وجه مناسبة السماع للأرواح فلننقل من أقوالهم ألفاظا ثم لنكشف عن الحقيقة فيه .
أما الصوفية فقد قال رحمه الله في السماع إنه وارد حق جاء يزعج القلوب إلى الحق فمن أصغى إليه بحق تحقق ومن أصغى إليه بنفس تزندق . ذو النون المصري
فكأنه عبر عن الوجد بانزعاج القلوب إلى الحق وهو الذي يجده عند ورود وارد السماع إذ سمي السماع وارد حق .
وقال أبو الحسين الدراج مخبرا عما وجده في السماع الوجد ، عبارة عما يوجد عند السماع وقال : جال بي السماع في ميادين البهاء فأوجدني وجود الحق عند العطاء فسقاني بكأس الصفاء فأدركت به منازل الرضاء وأخرجني إلى رياض التنزه والفضاء .
وقال الشبلي رحمه الله السماع ظاهره فتنة وباطنه عبرة فمن عرف الإشارة حل له استماع العبارة وإلا فقد استدعى الفتنة وتعرض للبلية .
وقال بعضهم : السماع غذاء الأرواح لأهل المعرفة لأنه وصف يدق عن سائر الأعمال ويدرك برقة الطبع لرقته وبصفاء السر لصفائه ولطفه عند أهله .
وقال عمرو بن عثمان المكي لا يقع على كيفية الوجد عبارة لأنه سر الله عند عباده المؤمنين الموقنين وقال بعضهم : الوجد مكاشفات من الحق .
وقال أبو سعيد بن الأعرابي الوجد رفع الحجاب ومشاهدة الرقيب وحضور الفهم وملاحظة الغيب ومحادثة السر وإيناس المفقود وهو فناؤك من حيث أنت وقال أيضا : الوجد أول درجات الخصوص وهو ميراث التصديق بالغيب فلما ذاقوه وسطع في قلوبهم نوره زال عنهم كل شك وريب .
وقال أيضا : الذي يحجب عن الوجد رؤية آثار النفس والتعلق بالعلائق والأسباب لأن النفس محجوبة بأسبابها فإذا انقطعت الأسباب وخلص الذكر وصحا القلب ورق وصفا ونجحت الموعظة فيه وحل من المناجاة في محل قريب ، وخوطب وسمع الخطاب بأذن واعية وقلب شاهد وسر ظاهر فشاهد ما كان منه خاليا فذلك هو الوجد ; لأنه قد وجد ما كان معدوما عنده .
وقال أيضا : الوجد ما يكون عند ذكر مزعج أو خوف مقلق أو توبيخ على زلة أو محادثة بلطيفة أو إشارة إلى فائدة أو شوق إلى غائب أو أسف على فائت أو ندم على ماض أو استجلاب إلى حال أو داع إلى واجب أو مناجاة بسر وهو مقابلة الظاهر بالظاهر والباطن بالباطن والغيب بالغيب ، والسر بالسر واستخراج ما لك بما عليك مما سبق للسعي فيه فيكتب ذلك لك بعد كونه منك ، فيثبت لك قدم بلا قدم وذكر بلا ذكر إذ ، كان هو المبتدئ بالنعم والمتولي وإليه يرجع الأمر كله ، فهذا ظاهر علم الوجد ، وأقوال الصوفية من هذا الجنس في الوجد كثيرة .
وأما الحكماء فقال بعضهم : في القلب فضيلة شريفة لم تقدر قوة النطق على إخراجها باللفظ فأخرجتها النفس بالألحان فلما ظهرت سرت وطربت إليها فاستمعوا من النفس وناجوها ودعوا مناجاة الظواهر .
وقال بعضهم : حتى يثوب ما عزب وينهض ما عجز ويصفو ما كدر ويمرح في ، كل رأي ونية فيصيب ولا يخطئ ويأتي ولا يبطئ . نتائج السماع استنهاض العاجز من الرأي واستجلاب العازب من الأفكار وحدة الكال من الأفهام والآراء
، وقال آخر : كما إن الفكر يطرق العلم إلى المعلوم فالسماع يطرق القلب إلى العالم الروحاني .
وقال بعضهم : وقد سئل عن سبب حركة الأطراف بالطبع على وزن الألحان والإيقاعات فقال : ذلك عشق عقلي ، والعاشق العقلي لا يحتاج إلى أن يناغي معشوقه بالمنطق الجرمي بل يناغيه ويناجيه بالتبسم واللحظ والحركة اللطيفة بالحاجب والجفن والإشارة ، وهذه نواطق أجمع إلا أنها روحانية ، وأما العاشق البهيمي ، فإنه يستعمل المنطق الجرمي ليعبر به عن ثمرة ظاهر شوقه الضعيف وعشقه الزائف .
وقال آخر : من حزن فليسمع الألحان .
فإن النفس إذا دخلها الحزن خمد نورها وإذا فرحت اشتعل نورها وظهر فرحها فيظهر الحنين بقدر قبول القابل وذلك بقدر صفائه ونقائه من الغش والدنس .
والأقاويل المقررة في السماع والوجد كثيرة ولا معنى للاستكثار من إيرادها فلنشتغل بتفهيم المعنى الذي الوجد عبارة عنه فنقول إنه عبارة عن حالة يثمرها السماع وهو وارد حق جديد عقيب السماع يجده المستمع من نفسه .
وتلك الحالة لا تخلو عن قسمين فإنها إما : أن ترجع إلى مكاشفات ومشاهدات هي من قبيل العلوم والتنبيهات ، وإما أن ترجع إلى تغيرات وأحوال ليست من العلوم بل هي كالشوق والخوف والحزن والقلق والسرور والأسف والندم والبسط والقبض وهذه الأحوال يهيجها السماع ويقويها فإن ضعف بحيث لم يؤثر في تحريك الظاهر أو تسكينه أو تغيير حاله حتى يتحرك على خلاف عادته أو يطرق أو يسكن عن النظر والنطق والحركة على خلاف عادته لم يسم وجدا ، وإن ظهر على الظاهر سمي وجدا ، إما ضعيفا وإما قويا بحسب ظهوره وتغييره للظاهر ، وتحريكه بحسب قوة وروده ، وحفظ الظاهر عن التغيير بحسب قوة الواجد وقدرته على ضبط جوارحه ، فقد يقوى الوجد في الباطن ولا يتغير الظاهر لقوة صاحبه ، وقد لا يظهر لضعف الوارد وقصوره عن التحريك وحل عقد التماسك. .
وإلى معنى الأول أشار أبو سعيد بن الأعرابي حيث قال في الوجد : إنه مشاهدة الرقيب وحضور الفهم وملاحظة الغيب ولا يبعد أن يكون السماع سببا لكشف ما لم يكن مكشوفا قبله فإن الكشف يحصل بأسباب منها التنبيه ، والسماع منبه ، ومنها تغير الأحوال ومشاهدتها وإدراكها فإن إدراكها نوع علم يفيد إيضاح أمور لم تكن معلومة قبل الورود ومنها صفاء القلب والسماع يؤثر في تصفية القلب والصفاء يسبب الكشف ومنها انبعاث نشاط القلب بقوة السماع فيقوى به على مشاهدة ما كان تقصر عنه قبل ذلك قوته كما يقوى البعير على حمل ما كان لا يقوى عليه قبله .
كما أن عمل البعير حمل الأثقال فبواسطة هذه الأسباب يكون سببا للكشف ، بل القلب إذا صفا ربما يمثل له الحق في صورة مشاهدة أو في لفظ منظوم يقرع سمعه يعبر عنه بصوت الهاتف إذا كان في اليقظة وبالرؤيا إذا كان في المنام وذلك جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة . وعمل القلب الاستكشاف وملاحظة أسرار الملكوت
وعلم تحقيق ذلك خارج عن علم المعاملة وذلك كما روي عن محمد بن مسروق البغدادي أنه قال : خرجت ليلة في أيام جهالتي وأنا نشوان وكنت أغني هذا البيت .
بطور سيناء كرم ما مررت به إلا تعجبت ممن يشرب الماء
فسمعت قائلا يقول .وفي جهنم ماء ما تجرعه خلق فأبقى له في الجوف أمعاء
، فانظر كيف أثر الغناء في تصفية قلبه حتى تمثل له حقيقة الحق في صفة جهنم في لفظ مفهوم موزون وقرع ذلك سمعه الظاهر .
وروي عن مسلم العباداني أنه قال : قدم علينا صالح المري وعتبة الغلام وعبد الواحد بن زيد ومسلم الأسواري فنزلوا على الساحل قال فهيأت لهم ذات ليلة طعاما فدعوتهم إليه فجاءوا ، فلما وضعت الطعام بين أيديهم إذا بقائل يقول رافعا صوته هذا البيت .
وتلهيك عن دار الخلود مطاعم ولذة نفس غيها غير نافع
وفي مثل هذه الحالة تتمثل الملائكة للأنبياء عليهم السلام إما على حقيقة صورتها ، وإما على مثال يحاكي صورتها بعض المحاكاة .
وقد رأى ، رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام مرتين في صورته وأخبر عنه بأنه سد الأفق .
وهو المراد بقوله تعالى : علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى إلى آخر هذه الآيات .
وفي مثل هذه الأحوال من الصفاء يقع الإطلاع على ضمائر القلوب وقد يعبر عن ذلك الإطلاع بالتفرس .
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم . اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله
وقد حكي أن رجلا من المجوس كان يدور على المسلمين ويقول ما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم فكان يذكر له تفسيره فلا يقنعه ذلك حتى انتهى إلى بعض المشايخ من الصوفية . اتقوا فراسة المؤمن
فسأله ، فقال له معناه أن تقطع الزنار الذي على وسطك تحت ثوبك .
فقال : صدقت هذا معناه ، وأسلم وقال : الآن عرفت أنك مؤمن وأن ، إيمانك حق .
وكما حكي عن إبراهيم الخواص قال : كنت ببغداد في جماعة من الفقراء في الجامع فأقبل شاب طيب الرائحة حسن الوجه فقلت ، لأصحابي : يقع لي أنه يهودي فكلهم كرهوا ذلك فخرجت وخرج الشاب ثم رجع إليهم وقال : أي شيء قال الشيخ في فاحتشموه فألح عليهم فقالوا له قال: إنك يهودي ، قال : فجاءني وأكب على يدي وقبل رأسي وأسلم وقال : نجد في كتبنا أن الصديق لا تخطئ فراسته ، فقلت امتحن المسلمين فتأملتهم فقلت : إن كان فيهم صديق ففي هذه الطائفة لأنهم يقولون حديثه سبحانه ويقرءون كلامه فلبست عليكم فلما اطلع على الشيخ وتفرس في علمت أنه صديق قال : وصار الشاب من كبار الصوفية .
وإلى مثل هذا الكشف الإشارة بقوله عليه السلام : لولا أن لنظروا إلى ملكوت السماء . الشياطين يحومون على قلوب بني آدم
وإنما تحوم الشياطين على القلوب إذا كانت مشحونة بالصفات المذمومة فإنها مرعى الشيطان وجنده .
ومن خلص قلبه من تلك الصفات وصفاه لم يطف الشيطان حول قلبه .
وإليه الإشارة بقوله تعالى : إلا عبادك منهم المخلصين وبقوله تعالى : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وهو شبكة للحق بواسطة الصفاء . والسماع سبب لصفاء القلب
وعلى هذا يدل ما روي أن ذا النون المصري رحمه الله دخل بغداد فاجتمع إليه قوم من الصوفية ومعهم قوال فاستأذنوه في أن يقول لهم شيئا .
فأذن لهم في ذلك فأنشأ يقول:
صغير هواك عذبني فكيف به إذا احتنكا
فجلس ذلك الرجل وكان ذلك اطلاعا من على قلبه . ذي النون
أنه متكلف متواجد ، فعرفه أن الذي يراه حين يقوم هو الخصم في قيامه لغير الله تعالى ، ولو كان الرجل صادقا لما جلس .