الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما الرتبة العليا فهي التي وصف الله تعالى المؤمنين بها في قوله : وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون أي : كانوا خلطاء في الأموال لا يميز بعضهم رحله عن بعض وكان منهم من لا يصحب من قال نعلي : لأنه أضافه إلى نفسه .

وجاء فتح الموصلي إلى منزل لأخ له وكان غائبا فأمر أهله فأخرجت صندوقه ففتحه وأخذ حاجته فأخبرت الجارية مولاها فقال إن صدقت فأنت حرة لوجه الله سرورا بما فعل .

وجاء رجل إلى أبي هريرة رضي الله عنه وقال : إني أريد أن أواخيك في الله ، فقال : أتدري ما حق الإخاء ؟ قال : عرفني ، قال : أن لا تكون أحق بدينارك ودرهمك مني ، قال لم أبلغ هذه المنزلة بعد ، قال : فاذهب عني .

وقال علي بن الحسين رضي الله عنهما لرجل : هل يدخل أحدكم يده في كم أخيه وكيسه ؟ فيأخذ منه ما يريد بغير إذنه ؟ قال : لا ، قال : فلستم بإخوان .

ودخل قوم على الحسن رضي الله عنه فقالوا : يا أبا سعيد ، أصليت ؟ قال : نعم ، قالوا : فإن أهل السوق لم يصلوا بعد ؟ قال : ومن يأخذ دينه من أهل السوق ؟! : بلغني أن أحدهم يمنع أخاه الدرهم قاله كالمتعجب منه .

وجاء رجل إلى إبراهيم بن أدهم رحمه الله وهو يريد بيت المقدس ، فقال : إني أريد أن أرافقك ، فقال له إبراهيم : على أن أكون أملك لشيئك منك ، قال : لا ، قال أعجبني : صدقك قال فكان إبراهيم بن أدهم رحمه الله إذا رافقه رجل لم يخالفه ، وكان لا يصحب إلا من يوافقه وصحبه رجل شراك فأهدى رجل إلى إبراهيم في بعض المنازل قصعة من ثريد ففتح جراب رفيقه وأخذ حزمة من شراك وجعلها في القصعة وردها إلى صاحب الهدية ، فلما جاء رفيقه قال : أين الشراك ؟ قال ذلك الثريد الذي أكلته إيش كان ؟ قال : كنت تعطيه شراكين أو ثلاثة ، قال : اسمح يسمح لك .

وأعطى مرة حمارا كان لرفيقه بغير إذنه رجلا رآه راجلا فلما جاء رفيقه سكت ولم يكره ذلك .

قال ابن عمر رضي الله عنهما : أهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة فقال: أخي فلان أحوج مني إليه فبعث به إليه ، فبعثه ذلك الإنسان إلى آخر فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى رجع إلى الأول بعد أن تداوله سبعة .

وروي أن مسروقا أدان دينا ثقيلا وكان على أخيه خيثمة دين قال فذهب مسروق فقضى دين خيثمة وهو لا يعلم وذهب خيثمة فقضى دين مسروق وهو لا يعلم ولما آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع آثره بالمال والنفس فقال عبد الرحمن بارك الله لك فيهما .

فآثره بما آثره به ، وكأنه قبله ثم آثره به وذلك مساواة ، والبداية إيثار والإيثار أفضل من المساواة .

وقال أبو سليمان الداراني لو أن الدنيا كلها لي فجعلتها في فم أخ من إخواني لاستقللتها له .

وقال أيضا إني : لألقم اللقمة أخا من إخواني فأجد طعمها في حلقي .

كان الإنفاق على الإخوان أفضل من الصدقات على الفقراء قال علي رضي الله تعالى عنه لعشرون درهما أعطيها أخي في الله أحب إلي من أن أتصدق بمائة درهم على المساكين وقال أيضا لأن أصنع صاعا من طعام وأجمع عليه إخواني في الله أحب إلي من أن أعتق رقبة .

واقتداء الكل في الإيثار برسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه دخل غيضة مع بعض أصحابه فاجتنى منها سواكين أحدهما معوج والآخر مستقيم إلى صاحبه فقال له : يا رسول الله ، كنت والله أحق بالمستقيم مني ، فقال : ما من صاحب يصحب صاحبا ولو ساعة من النهار إلا سئل عن صحبته هل أقام فيها حق الله أم أضاعه .

التالي السابق


(وأما الرتبة العليا فهي التي وصف الله المؤمنين بها في قوله تعالى: وأمرهم شورى بينهم ) أي: أمورهم، ذكر جماعها كالشيء الواحد شورى بينهم مشاع غير مقسوم ولا يستبد به وأحدهم فيه سواء ( ومما رزقناهم ينفقون أي: كانوا خلطاء في الأموال لا يميز بعضهم رحله عن بعض) كذا في القوت (وكان فيهم من لا يصحب من قال: مالي) وفي بعض النسخ: نعلي (لأنه أضافه إلى نفسه) أي: ففيه نوع استبداد، ولفظ القوت: ومن أخلاق السلف، قال: لم يكن أحدنا يقول في رحله: هذا لي وهذا لك، بل كل من احتاج إلى شيء استعمله من غير مؤامرة، وأورده القشيري في الرسالة نحوه عن إبراهيم بن شيبان.

(وجاء فتح) بن سعيد (الموصلي) تقدمت ترجمته في كتاب العلم (إلى منزل أخ له وكان غائبا فأمر أهله فأخرجت صندوقه ففتحه وأخرج) من كيسه (حاجته فأخبرت الجارية مولاها) ولفظ القوت: فذهبت الجارية إلى مولاها فأعلمته (فقال) لها: (إن صدقت) أي: إن كنت صادقة (فأنت حرة لوجه الله تعالى سرورا بما فعل) نقله صاحب القوت، (وجاء) رجل (آخر إلى أبي هريرة) -رضي الله عنه- (فقال: إني أريد أن أواخيك في الله تعالى، فقال: أتدري ما حق الإخاء؟ قال: عرفني، قال: أن لا تكون أحق بدينارك ودرهمك مني، قال) الرجل: (لم أبلغ هذه المنزلة بعد، قال: فاذهب عني) نقله صاحب القوت .

(وقال علي بن الحسين) بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم (لرجل من جلسائه: هل يدخل أحدكم يده في كم صاحبه؟) ولفظ القوت: أخيه (أو كيسه فيأخذ منه ما يريد من غير إذن؟ قال: لا، قال: فلستم بإخوان) نقله [ ص: 206 ] صاحب القوت (ودخل قوم على) أبي سعيد الحسن (الحسن) البصري (فقالوا: يا أبا سعيد، أصليت؟ قال: نعم، قالوا: فإن أهل السوق لم يصلوا بعد؟ قال: ومن يأخذ دينه عن أهل السوق؟! قال: فإن أهل السوق بلغني أن أحدهم يمنع أخاه الدرهم) نقله صاحب القوت ذات المصنف (قاله كالمتعجب منه) وقال محمد بن نصر: (جاء رجل إلى إبراهيم بن أدهم وهو يريد بيت المقدس، فقال: إني أريد أن أرافقك، فقال له إبراهيم: على أن أكون أملك لشيئك منك، قال: لا، قال: فأعجبني صدقك) كذا في القوت، وقال موسى بن طريف: (كان إبراهيم بن أدهم إذا رافقه رجل لم يخالفه، وكان لا يصحب إلا من يوافقه) كذا في القوت .

وأخرجه أبو نعيم في الحلية مثله قال موسى بن طريف: وبلغني أنه صحبه في بعض أسفاره رجل شراك، وهو الذي يعمل الشرك للنعال، (فأهدى رجل إلى إبراهيم في بعض المنازل) في قرية من قرى حمص، وكانت هناك ساقية ماء وإلى جانبها دار وفيها غرفة، فلما نزل إبراهيم هناك وتوضأ وصف قدميه للصلاة بصر به صاحب الغرفة، فأرسل إليه (قصعة) فيها ثريد وخبز وعراق، فوضعت بين أيديهم، فانفتل من الصلاة وقال: من بعث؟ قالوا: صاحب المنزل، قال: ما اسمه؟ قالوا: فلان بن فلان، فأكل وأكلوا، فلما أراد أن يرد القصعة (ففتح جراب رفيقه وأخذ حزمة من شرك) بضمتين جمع شراك ككتاب وكتب، (فجعلها في القصعة وردها إلى صاحب الهدية، فلما جاء رفيقه) صاحب الشرك (قال: أين الشرك؟ قال ذلك الثريد الذي أكلته أي شيء كان؟ قال: كنت تعطيه شراكين أو ثلاثة، قال: اسمح يسمح لك) هكذا في القوت، وبعضه في الحلية، وقوله: اسمح يسمح؛ حديث مرفوع رواه ابن عباس.

وقد تقدم في كتاب الكسب والمعاش، وقال موسى بن طريف: و (بلغني أنه) يعني إبراهيم بن أدهم (أعطى مرة حمارا كان لرفيقه بغير إذنه رجلا رآه راجلا) أي: ماشيا على رجليه، فلما جاء رفيقه وأخبر به سكت ولم يكره ذلك. كذا في القوت، وفي الحلية من طريق أحمد بن أبي الحواري قال: حدثني أخي محمد، قال: دخل رواد بن الجراح الرحلة على برذون بلا سرج، فقيل: أين سرجك؟ قال: ذهب به شيخنا إبراهيم بن أدهم، قال أحمد: وكان أهدى له طبق تين وعنب، فأخذ السرج ووضعه على الطبق ومرة أخرى أهدى له مثله فنزع فروه فوضع على الطبق .

ومن طريق محمد بن خلف العسقلاني قال: سمعت داود بن الجراح يقول: خرجت مع إبراهيم للغزو ففقدت سرجي، فقلت: أين سرجي؟ فقالوا: إن إبراهيم بن أدهم أتي بهدية فلم يجد ما يكافئه فقد أخذ سرجك فأعطاه قال: فرأيت روادا سر به (وقال ابن عمر ) رضي الله عنهما: (أهدي لرجل من الصحابة رأس شاة فقال: أخي فلان أحوج إليه مني فابعثيه إليه، فبعثه الثاني إلى آخر فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى رجع إلى الأول بعد أن تداوله سبعة) تقدم هذا في كتاب العلم، وهذه المعاملة وقعت لأهل الصفة، وهذا هو الإيثار المشار إليه بقوله: ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة .

(وروي أن مسروقا) بن الجدع بن مالك الهمداني الكوفي (ادان دينا ثقيلا وكان على أخيه خيثمة) بن عبد الرحمن بن أبي سبرة الجعفي الكوفي (دين) كذلك، قال الراوي: فذهب مسروق فقضى دين خيثمة وهو لا يعلم، فذهب خيثمة وقضى دين مسروق وهو لا يعلم. كذا في القوت (ولما آخى النبي -صلى الله عليه وسلم- بين عبد الرحمن بن عوف) القرشي الزهري أحد العشرة الكرام -رضي الله عنه- وبين سعيد بن الربيع بن عمر الأنصاري الخزرجي عقبي بدري نقيب الحارث بن الخزرج (آثره بالمال والأهل) وفي بعض النسخ: بالمال والنفس، وهكذا هو في القوت (فقال عبد الرحمن) : وفي بعض النسخ: فقال سعد: فاعترض عليه العراقي كما سيأتي (بارك الله لك فيما آثرت به، وكأنه قبله ثم آثر به وذلك مساواة، والبداية إيثار والإيثار أفضل من المساواة) ، ولفظ القوت: فآثره بما به آثره، فكأنه استأنف هبة له؛ لأنه قد كان ملكه إياه لسخاوته وحقيقة زهده وصدق مودته، فكانت المساواة لسعد والإيثار لعبد [ ص: 207 ] الرحمن فزاد عليه، وهذا من فضل المهاجرين على الأنصار؛ إذ كانت المساواة دون الإيثار، قال العراقي: المعروف أن سعد بن الربيع هو الذي عرض نفسه نصف ماله وإحدى زوجتيه على عبد الرحمن بن عوف، فقال له عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، هكذا رواه البخاري من حديث أنس، قلت: وهذا على ما في نسخة، قال سعد: والذي في أيدينا، قال عبد الرحمن: فلا إشكال (وقال أبو سليمان الداراني) رحمه الله تعالى: ولفظ القوت: وقد كان نصر بن عيسى وسليمان يقولان: من أحب رجلا ثم قصر في حقه فهو كاذب في حبه مفرط في حقه، ثم قال (لو أن الدنيا كلها لي) أي: في حوزتي (فجعلتها في فم أخ من إخواني لاستقللتها له) أي: لوجدتها قليلة (وقال أيضا: لألقم أخا من إخواني اللقمة فأجد طعمها في حلقي) كذا في القوت، ولما كان إطعام الطعام و (الإنفاق على الإخوان أفضل من الصدقات على الفقراء) وعلى العطاء للأجانب بمنزلة تضعيف الثواب في الأهل والقرابات .

(قال علي كرم الله وجهه) ورضي عنه (لعشرون درهما أعطيها أخي في الله أحب إلي من أن أتصدق بمائة درهم على الفقراء) كذا في القوت، وقال أيضا: إني لأصنع، ولفظ القوت: (لأن أصنع) صاعا من طعام أجمع عليه إخواني في الله عز وجل أحب إلي من أن أعتق رقبة. وتقدم في كتاب الزكاة (واقتدى الكل منهم في الإيثار بالنبي -صلى الله عليه وسلم- فإنه دخل غيضة) هي الشجر الملتف (مع بعض أصحابه) ، ولفظ القوت: وروي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صحبه رجل في طريق فدخل غيضة (فاجتنى منها سواكين) من أراك (أحدهما معوج والآخر مستقيم فدفع المستقيم إلى صاحبه) وحبس المعوج لنفسه (فقال: يا رسول الله، كنت أحق بالمستقيم مني، فقال: ما من صاحب يصحب صاحبه ولو ساعة من نهار إلا سئل عن صحبته هل أقام فيه حق الله أو أضاعه) كذا أورده صاحب القوت، قال العراقي: لم أقف له على أصل. اهـ .




الخدمات العلمية