الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الأدب الرابع : أن لا يقوم ولا يرفع صوته بالبكاء وهو يقدر على ضبط نفسه ، ولكن إن رقص أو تباكى فهو مباح إذا لم يقصد به المراءاة لأن التباكي استجلاب للحزن ، والرقص سبب في تحريك السرور والنشاط .

فكل سرور مباح فيجوز تحريكه .

ولو كان ذلك حراما لما نظرت عائشة رضي الله عنها إلى الحبشة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يزفنون .

.. هذا لفظ عائشة رضي الله عنها في بعض الروايات .

وقد روي عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم أنهم حجلوا لما ورد عليهم سرور أوجب ذلك ، وذلك في قصة ابنة حمزة لما اختصم فيها علي بن أبي طالب وأخوه جعفر وزيد بن حارثة رضي الله عنهم فتشاحوا في تربيتها فقال صلى الله عليه وسلم لعلي : أنت مني وأنا منك. فحجل علي ، وقال لجعفر : أشبهت خلقي وخلقي. فحجل وراء حجل علي وقال لزيد : أنت أخونا ومولانا ، فحجل زيد وراء حجل جعفر ، ثم قال صلى الله عليه وسلم : هي لجعفر ; لأن خالتها تحته ، والخالة والدة .

وفي رواية أنه قال لعائشة رضي الله عنها أتحبين أن تنظري إلى زفن الحبشة والزفن والحجل هو الرقص .

وذلك يكون لفرح أو شوق ، فحكمه حكم مهيجه إن ، كان فرحه محمودا والرقص يزيده ويؤكده ، فهو محمود ، وإن كان مباحا فهو مباح ، وإن كان مذموما فهو مذموم. .

نعم ، لا يليق اعتياد ذلك بمناصب الأكابر وأهل القدوة ; لأنه في الأكثر يكون عن لهو ولعب وما له ، صورة اللعب واللهو في أعين الناس فينبغي أن يجتنبه المقتدي به لئلا يصغر في أعين الناس فيترك الاقتداء به .

وأما تمزيق الثياب فلا رخصة فيه إلا عند خروج الأمر عن الاختيار ولا يبعد أن يغلب الوجد بحيث يمزق ثوبه وهو لا يدري لغلبة سكر الوجد عليه أو يدري ولكن يكون كالمضطر الذي لا يقدر على ضبط نفسه وتكون صورته صورة المكره إذ يكون له في الحركة أو التمزيق متنفس فيضطر إليه اضطرار المريض إلى الأنين ولو كلف الصبر عنه لم يقدر عليه مع أنه فعل اختياري ، فليس كل فعل حصوله بالإرادة يقدر الإنسان على تركه ، فالتنفس فعل يحصل بالإرادة ، ولو كلف الإنسان أن يمسك النفس ساعة لاضطر من باطنه إلى أن يختار التنفس .

فكذلك الزعقة وتمزيق الثياب قد يكون كذلك فهذا لا يوصف بالتحريم .

فقد ذكر عند السري حديث الوجد الحاد الغالب فقال : نعم يضرب وجهه بالسيف وهو لا يدري فروجع فيه واستبعد أن ينتهي إلى هذا الحد فأصر عليه ولم يرجع .

ومعناه ، أنه في بعض الأحوال قد ينتهي إلى هذا الحد في بعض الأشخاص .

التالي السابق


(الأدب الرابع: أن لا يقوم) في السماع (ولا يرفع صوته بالبكاء وهو يقدر على ضبط نفسه، ولكن إن رقص أو تباكى) أي: تكلف البكاء (فهو مباح إذا لم يقصد به المراياة) للناس الحاضرين؛ (لأن التباكي استجلاب للحزن، والرقص سبب في تحريك السرور والنشاط، وكل سرور مباح فيجوز تحريكه ولو كان حراما لما نظرت عائشة -رضي الله عنها- إلى الحبشة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهم يرقصون.. هذا لفظ عائشة) -رضي الله عنها- (في بعض الروايات) كما تقدم في الباب الذي قبله. (وقد روي عن جماعة من الصحابة) رضي الله عنهم (أنهم حجلوا) أي: رقصوا (لما ورد عليهم سرور أوجب ذلك، وذلك في قصة ابنة حمزة) بن عبد المطلب -رضي الله عنه- اسمها أمامة على الصحيح، وهي التي تزوجها سلمة ابن أم سلمة، وقيل: اسمها عمارة وهو غلط، فإن عمارة اسم ابن له (لما اختصم فيها علي بن أبي طالب وأخوه جعفر وزيد بن حارثة رضي الله عنهم) وذلك في عمرة القضاء، (فتشاجروا في تربيتها) وفي نسخة: فتشاحوا، وكل منهم قال: أنا أحق بها، (فقال -صلى الله عليه وسلم- لعلي: أنت مني وأنا منك. فحجل علي، وقال لجعفر: أشبهت خلقي وخلقي. فحجل وراء حجل علي [ ص: 567 ] وقال لزيد: أنت أخونا ومولانا، فحجل زيد وراء حجل جعفر، ثم قال -صلى الله عليه وسلم-: هي لجعفر; لأن خالته تحته، والخالة والدة) .

قال العراقي: رواه أبو داود بإسناد حسن، وهو عند البخاري دون ذكر الحجل. اهـ. قلت: وكذلك أخرجه البيهقي في السنن، والخالة هي أسماء بنت عميس، وفي الصحيحين وغيرهما: الخالة بمنزلة الأم.

(وفي بعض الروايات أنه) -صلى الله عليه وسلم- (قال لعائشة) -رضي الله عنها-: (أتحبين أن تنظري إلى زفن الحبشة) ، والذي في صحيح مسلم من حديثها قالت: جاء حبش يزفنون في يوم عيد في المسجد فدعاني النبي -صلى الله عليه وسلم- فوضعت رأسي على منكبه فجعلت أنظر إلى لعبهم حتى كنت أنا الذي أنصرف عن النظر إليهن، (والزفن) بسكون الفاء (والحجل) محركة (هو الرقص) ، وأصل الحجل مشي المقيد والقيد هو الحجل بالكسر، ومنه قولهم: الغراب يحجل، ولا شك أن مشي المقيد إنما هو وثب واهتزاز وهو الرقص، (وذلك يكون لفرح أو شوق، فحكمه حكم مهيجه، فإن كان فرحه محمودا والرقص يزيده ويؤكده، فهو محمود، وإن كان مباحا فهو مباح، وإن كان مذموما فهو مذموم. نعم، لا يليق اعتياد ذلك بمناصب الأكابر وأهل القدوة; لأنه في الأكثر يكون عن لهو ولعب، وما له صورة في أعين الناس فينبغي أن يجتنبه المقتدى به لئلا يصغر في أعين الناس فيترك الاقتداء به) ، ولذلك قيل: الرقص نقص، وهو من أفعال أهل البطالات لا يليق بالعقلاء ولا يناسب أحوال العقلاء; لأنهم ينزهون أنفسهم عن مشابهة السفلة الطغام وعن مشاكلة الصبيان والنسوان .

ولنذكر ما للعلماء فيه من كلام، فذهبت طائفة إلى كراهته منهم القفال حكاه عن الروياني في البحر، وقال الأستاذ أبو منصور: تكلف الرقص على الإيقاع مكروه، وهؤلاء احتجوا بأنه لعب ولهو وهو مكروه، وذهبت طائفة إلى إباحته. قال الفوراني في كتابه العمدة: الغناء يباح أصله، وكذلك ضرب القضيب والرقص وما أشبه ذلك، وقال إمام الحرمين: الرقص ليس بمحرم، فإنه حركات على استقامة أو اعوجاج، ولكن كثيره يخرم المروءة، وكذلك قال مجلي في الذخائر، والعماد السهروردي والرافعي وبه جزم المصنف في الوسيط وابن أبي الدم، وهؤلاء احتجوا بأمرين السنة والقياس، أما السنة فما تقدم من حديث عائشة قريبا في زفن الحبشة، وحديث علي في حجله، وكذا جعفر وزيد، أما القياس فكما قال إمام الحرمين: حركات على استقامة أو اعوجاج فهي كسائر الحركات، وذهبت طائفة إلى تفصيل فقالت: إن كان فيه تثن وتكسر فهو مكروه، وإلا فلا بأس به، وهذا ما نقله ابن أبي الدم عن الشيخ أبي علي بن أبي هريرة وكذلك نقله الحليمي في منهاجه، هؤلاء احتجوا بأن فيه التشبيه بالنساء، وقد لعن المتشبه بهن، وذهبت طائفة إلى أنه إن كان فيه تثن وتكسر فهو حرام، وإلا فلا، وهذا أورده الرافعي في الشرح الصغير، وحكاه في الشرح الكبير عن الحليمي وحكاه الجيلي في المحرر، وذهب بعضهم إلى التفرقة بين المداومة وغيرها وجعله عند المداومة لا يجوز، وهذا ما أورده الجاجرمي في الكفاية، وذهب بعضهم إلى التفرقة بين أرباب الأحوال والمواجيد فيجوز ويكره لغيرهم، وهذا ما أورده الأستاذ أبو منصور وأشار إليه القاضي حسين في تعليقه، وأبو بكر العامري وهو مقتضى سياق المصنف في هذا الكتاب .

وللصوفية اختلاف في أصحاب المواجيد الذين يغلب عليهم الحال هل هو محمود لهم أم لا؟ وغيرهم ينقسم قيامهم إلى محرم ومكروه ومباح بحسب القصد، وبعضهم يرى أن يقوم غير ذي الحال موافقا لصاحب الحال كما سيأتي للمصنف، وهل السكون أتم، أو الحركة أتم؟ قد تقدم حكمه، وقد اعترض من قال بالكراهة على حديث عائشة بأمور منها: أن الحديث محمول على الحركة القريبة من الرقص جمعا بين الطرق، فإن معظم الطرق ليس فيها إلا لعب الحبشة بالحراب هذا، أو ما هذا معناه، ذكره النووي في شرح مسلم عن العلماء، ومنها: أن الذي فعلته الحبشة أمر يرجع إلى الحرب، فهو يرجع إلى أمر ديني ذكره القرطبي واليسع بن عيسى الغافقي، وتقدم تقرير شيء من ذلك في الباب الأول .

وكذلك اعترضوا على حديث علي في الحجل، وقالوا: ليس حجلهم كهذا الرقص، واعترضوا على القياس بأن هذه حركات على ترتيب خاص لعبا ولهوا، فلا تلحق بسائر الحركات، والجواب عن ذلك: أما ما ذكره النووي [ ص: 568 ] فالأصل خلافه، وليس بين الأحاديث تعارض ولا مخالفة ليقع الجمع، فإن تلك الأحاديث فيها ذكر اللعب بالحراب، ومن جملة اللعب الرقص .

ففي هذه الرواية تبين لبعض ذلك المجمل، فحاصله أن رقصوا ولعبوا بحرابهم، وهذه عادة السودان إلى الآن يرقصون ويحذفون حرابهم ويتلقونها، وأما الحديث الثاني فما فعلوه من جملة الرقص، والرقص مختلف وهل حركتهم إلا نوع مخصوص على ترتيب خاص، وكذلك هذا الرقص، وأما ما قاله اليسع أن في رقصهم تدريبا للحرب، وكذلك القرطبي حيث قال: إنه يرجع إلى أمر ديني، والأحاديث تأباه، فإنه إنما كان لعبا ولهوا، وقد قالت عائشة: فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو، وفي بعض طرق الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: لتعلم اليهود والنصارى أن في ديننا فسحة. وفي الحديث: إن عمر -رضي الله عنه- قصد أن يحصبهم، وإنما كان كذلك; لأنه رأى لهوا ولعبا في المسجد، والمساجد تصان عن اللهو واللعب، ونهى عمر عن نهيهم إذ فيه فسحة وليس فيه تمرين، ولا يرجع إلى أمر الحرب، وأما كون الحركة على ترتيب خاص فليس الترتيب من شرطه ولو كان لم يكن فيه ما يقتضي المنع، وكونه لهوا ولعبا تقدم البحث فيه مرارا وفي رقص الحبشة ولعبهم ما يعرفك أن ليس كل لهو ولعب مكروها .

وأما أصحاب الأحوال والمواجيد فلا اعتراض عليهم فإنهم مغلوبون على الحركة، وفي كلام بعض الشافعية ما يخرجه حيث قال: إذا كانت الحركة باختياره ولا شك أن الألحان لها تأثير في استجلاب الحركة كما تقدم، وكلما لطف المزاج وخفت الروح وشرفت النفس حركتها الألحان وهزها الوجد، وكذلك الكلام الحسن والمعنى الدقيق يحرك الجسم، وقد ينتهي بأن يصير الإنسان مغلوبا على الحركة .

قال أبو منصور الثعالبي في بعض كتبه: كان أبو الطيب سهل بن أبي سهل الصعلوكي يقول: ما كنت أعرف سبب رقص الصوفية حتى سمعت قول أبي الفتح البستي الكاتب فكدت أن أرقص طربا، وعلمت أن الكلام الحسن يرقص، وذلك قوله:


يقولون ذكر المرء يحيا بنسله وليس له ذكر إذا لم يكن نسل قلت لهم نسلي بدائع حكمتي
فإن فاتنا نسل فإنا به نسلو



ولا شك أن الحركة تخفف الوارد وتضعفه وتحصل به استرواحة، وعلامة المغلوب أن لا يلزم الإيقاع، والغالب على الطباع الداخلة الموافقة من غير قصد، وسمى المصنف الحركة الموزونة رقصا وغيرها اضطرابا، (وأما تمزيق الثياب فلا رخصة فيه إلا عند خروج الأمر عن الاختيار) ، وهو أن يكون مغلوبا في فعله ذلك، (ولا يبعد أن يغلب الوجد) على واجده (بحيث يمزق ثوبه وهو لا يدري لغلبة سكر الوجد عليه) فيكون كالمدهوش (أو يدري ولكنه يكون كالمضطر الذي لا يقدر على ضبط نفسه) ، فهو أيضا مغلوب الاختيار (ويكون صورته صورة المكره) والملجأ (إذ يكون له في الحركة والتمزيق متنفس فيضطر إليه اضطرار المريض إلى الأنين) ، فإن له متنفسا في ذلك، (ولو كلف الصبر عنه لم يقدر عليه مع أنه فعل اختياري، فليس كل فعل حصوله بالإرادة يقدر الإنسان على تركه، فالتنفس فعل يحصل بالإرادة، ولو كلف الإنسان نفسه أن يمسك النفس ساعة لاضطر من باطنه أن يختار التنفس، فكذلك الزعقة وتمزيق الثياب قد يكون كذلك فهذا لا يوصف بالتحريم) إذا كان على الوجه الذي قررناه .

(فقد ذكر عند السري) بن المفلس (السقطي) وهو أستاذ الجنيد رحمهما الله تعالى (حديث الوجد الحاد الغالب) ما حده؟ (فقال: نعم يضرب وجهه بالسيف وهو لا يدري فروجع فيه واستبعد أن ينتهي) الوجد (إلى هذا الحد فأصر عليه ولم يرجع، معناه أنه في بعض الأحوال قد ينتهي إلى هذا الحد في بعض الأشخاص) يعني أن جواب السري خاص، وأشار به إلى أن هذا الوجد قد يوجد في بعض، قال صاحب العوارف: فليتق الله ربه ولا يتحرك إلا إذا صارت حركة كحركة المرتعش الذي لا يجد سبيلا إلى الإمساك، وكالعاطس الذي لا يقدر أن يرد العطسة، وقد تكون حركته بمثابة النفس الذي يتنفس تدعوه إلى التنفس داعية الطبع، فلهذا قال السري: شرط الواجد في زعقته أن يبلغ إلى حد لو ضرب وجهه بالسيف لا يشعر فيه بوجع، وقد يقع هذا في [ ص: 569 ] حق بعض الواجدين نادرا، وقد لا يبلغ الواجد هذه الرتبة من الغيبة، ولكن زعقته تخرج كالنفس بنوع إرادة ممزوجة بالاضطرار، وهذا الضبط من رعاية الحركات ورد الزعقات هو في تمزيق الثياب آكد، فإن ذلك يكون إتلاف المال واتفاق المحال. اهـ .

وقد وجدت سببا خفيا لتخريق الثياب عند غلبة الوجد قال القشيري في الرسالة: سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت عبد الواحد بن بكر يقول: سمعت عبد الله بن عبد الحميد يقول: سئل رويم عن وجه وجود الصوفية عند السماع، فقال: يشهدون المعاني التي بعدت عن غيرهم فتشير إليهم: إلي إلي فيتنعمون بذلك من الفرح، ثم يقع الحجاب فيعود ذلك الفرح بكاء، فمنهم من يخرق ثيابه ومنهم من يصيح، ومنهم من يبكي، كل إنسان على قدره .




الخدمات العلمية