الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
القسم الثالث أن يكون الأصل التحريم ولكن طرأ ما أوجب تحليله بظن غالب ، فهو مشكوك فيه ، والغالب حله ، فهذا ينظر فيه ، فإن استند غلبة الظن إلى سبب معتبر شرعا فالذي نختاره فيه أنه يحل واجتنابه ، من الورع .

مثاله أن يرمي إلى صيد فيغيب ثم يدركه ميتا وليس عليه أثر سوى سهمه ، ولكن يحتمل أنه مات بسقطة أو بسبب آخر فإن ظهر عليه أثر صدمة أو جراحة أخرى التحق بالقسم الأول .

وقد اختلف قول الشافعي رحمه الله في هذا القسم والمختار أنه حلال لأن الجرح سبب ظاهر وقد تحقق والأصل أنه لم يطرأ غيره عليه فطريانه مشكوك فيه ، فلا يدع اليقين بالشك .

فإن قيل فقد قال ابن عباس كل ما أصميت ودع ما أنميت .

وروت عائشة رضي الله عنها أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم بأرنب فقال رميتي عرفت : فيها سمهي ، فقال : أصميت أو أنميت فقال ؟ : بل أنميت قال : إن الليل خلق من خلق الله لا يقدر قدره إلا الذي خلقه فلعله أعان على قتله شيء .

وكذلك قال صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم في كلبه المعلم : وإن أكل فلا تأكل ، فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه .

والغالب أن الكلب المعلم لا يسيء خلقه ولا يمسك إلا على صاحبه ومع ذلك نهى عنه وهذا التحقيق وهو أن الحل إنما يتحقق إذا تحقق تمام السبب ، وتمام السبب بأن يفضي إلى الموت سليما من طريان غيره عليه ، وقد شك فيه فهو شك في تمام السبب حتى اشتبه أن موته على الحل أو على الحرمة ، فلا يكون هذا في معنى ما تحقق موته على الحل في ساعته ، ثم شك فيما يطرأ عليه ، فالجواب أن نهي ابن عباس ونهي رسول الله صلى الله عليه وسلم محمول على الورع والتنزيه ، بدليل ما روي في بعض الروايات أنه قال : كل منه وإن غاب عنك ما لم تجد فيه أثرا غير سهمك .

وهذا تنبيه على المعنى الذي ذكرناه وهو أنه إن وجد أثرا آخر فقد تعارض السببان بتعارض الظن وإن لم يجد سوى جرحه حصل غلبة الظن فيحكم به على الاستصحاب كما يحكم على الاستصحاب بخبر الواحد ، والقياس المظنون والعمومات المظنونة وغيرها .

التالي السابق


(القسم الثالث)

( أن يكون الأصل التحريم ولكن طرأ) عليه (ما أوجب تحليله بظن غالب، فهو مشكوك فيه، والغالب حله، فهذا ينظر فيه، فإن استند) ذلك (الظن إلى سبب معتبر شرعا) ، وتبين، (فالاختيار فيه أنه يحل، وأن اجتنابه من الورع مثاله أن يرمي) بسهمه (إلى صيد) ، فيصيبه (فيغيب) عنه (ثم يدركه) بعد (ميتا وليس عليه أثر سوى) أثر (سهمه، ولكن يحتمل أنه) أي: ذلك الصيد، (مات بسقطة) في الهواء، (أو بسبب آخر) كالتردي من الجبل أو غير ذلك، (فإن ظهر عليه أثر صدمة أو جراحة أخرى التحق بالقسم الأول) ، وهو أن يكون التحريم معلوما من قبل، ثم يقع الشك في المحلل. (وقد اختلف قول الشافعي ) رحمه الله تعالى (في هذا القسم) ، فقيل: حرام، وقيل: حلال، (والمختار أنه حلال) ، وقد تقدم عن ابن بطال حكاية الإجماع على هذا القول; (لأن الجرح سبب ظاهر) لموته، (والأصل أنه لم يطرأ غيره عليه فهو مشكوك فيه، فلا يدفع اليقين بالشك، فإن قيل فقد قال ابن عباس ) رضي الله عنهما فيما رواه البيهقي موقوفا عليه: ( كل ما أصميت ودع ما أنميت ) ، وقد تقدم الكلام عليه قريبا .

(وروت عائشة رضي الله عنها أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم بأرنب ) وهو حيوان معروف يذكر ويؤنث، وقال أبو حاتم : يقال للذكر خزز وللأنثى أرنب، ( فقال: رميتي ) الرمية وزان عطية ما يرمى من الحيوان ذكرا كان أو أنثى، والجمع رميات ورمايا مثل عطيات وعطايا، وأصلها فعيلة بمعنى مفعولة، ( عرفت فيها سهمي، فقال: أصميت أو أنميت؟ ) ، وتقدم معنى الإصماء والإنماء. ( قال: بل أنميت قال عليه ) الصلاة و ( السلام: إن الليل خلق من خلق الله ) عظيم، ( ولا يقدر قدره إلا الذي خلقه ) إشارة إلى كمال عظمة خلقته، ( لعله أعان على قتلها شيء ) .

قال العراقي : ليس هذا من حديث عائشة ، وإنما رواه موسى بن أبي عائشة عن أبي رزين قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بصيد فقال: إني رميته من الليل فأعياني، ووجدت سهمي فيه من الغد، وعرفت سهمي، فقال: الليل خلق من خلق الله عظيم لعله أعانك عليه شيء . رواه أبو داود في المراسيل والبيهقي ، وقال: أبو رزين اسمه مسعود ، والحديث مرسل قاله البخاري اهـ .

قلت: وفي الإصابة أبو رزين غير منسوب لم يرو عنه إلا ابنه عبد الله ، وهما مجهولان، حديثه في الصيد يتوارى، قاله أبو عمر اهـ. وفي التهذيب للمزي : أبو رزين الأسدي اسمه مسعود [ ص: 38 ] ابن مالك روى عن أبي هريرة وغيره، وعنه الأعمش وغيره. روى له البخاري في الأدب والباقون اهـ .

ومن هنا تعلم أن قول السيوطي في جامعه: "الليل خلق من خلق الله عظيم" . رواه أبو داود في مراسيله، والبيهقي عن أبي رزين يوهم أن أبا رزين صحابي، وأوهم منه قول شارحه المناوي فيه: إنه العقيلي ، فإن أبا رزين راوي هذا الحديث تابعي قطعا، وأما العقيلي فهو لقيط بن صبرة صحابي اتفاقا، وليس هذا الحديث له، (وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم) الطائي رضي الله عنه ( في كلبه المعلم: وإن أكل فلا تأكل، فإني أخاف أن يكون إنما أمسكه على نفسه ) . رواه الستة من حديث همام بن الحارث عنه، وقد تقدم سياقه، وكذلك رواه الشيخان وأبو داود وابن ماجه من طريق الشعبي عنه، وتقدم سياقه أيضا، (والغالب أن الكلب المعلم لا ينسى خلقه ولا يمسك إلا على صاحبه) ، وذكر أصحابنا أن التعليم في الكلب يكون بترك الأكل ثلاث مرات، وفي البازي بالرجوع إذا دعي، وإنما شرط ترك الأكل ثلاث مرات، وهو قول أبي يوسف ومحمد ، ورواية عن الإمام، والمشهور عنه أنه لا يقدر بشيء لأن المقادير تعرف بالنص، ولا نص هنا فيفوض إلى رأي المبتلى به (ومع ذلك نهي عنه) بقوله: فإن أكل فلا تأكل، وكذلك حكم الفهد إن أكل منه فلا يؤكل بخلاف الصقر والشاهين والبازي، فإنه يؤكل وإن أكل منه .

(وهذا التحقيق وهو أن الحل إنما يتحقق إذا تحقق تمام السبب، وتمام السبب بأن يفضي إلى الموت) حالة كونه (سليما من طريان غيره عليه، وقد شك فيه) ، أي: في طريان غيره، (فهو شك في تمام السبب حتى اشتبه أن موته على الحل أو على الحرمة، فلا يكون هذا في معنى ما تحقق موته على الحل في ساعة، ثم شك فيما طرأ عليه، فالجواب) عن ذلك (أن نهي ابن عباس ) رضي الله عنهما (ونهي رسول الله صلى الله عليه وسلم) في الحديثين السابقين (محمول على الورع، و) النهي نهي (التنزيه بدليل ما روي) عنه صلى الله عليه وسلم (في بعض الروايات أنه قال صلى الله عليه وسلم: كل منه وإن غاب عنك ما لم تجد فيه أثرا غير سهمك ) .

قال العراقي : متفق عليه من حديث عدي اهـ .

قلت: ورواه أيضا ابن ماجه والطبراني من حديث أبي ثعلبة الخشني ، وقد تقدم. (وهذا تنبيه على المعنى الذي ذكرناه) آنفا، (وهو أنه إذا وجد أثرا آخر) غير أثره، (فقد تعارض السببان) بتعارض الأثرين، (فتعارض الظن) بتعارض السببين، (فإن لم يجد سوى جرحه حصلت غلبة الظن فنحكم بها) أي: بغلبة الظن (على الاستصحاب كما نحكم على الاستصحاب بخبر الواحد، والقياس المظنون والعمومات المظنونة وغيرها) ، وذكر الأصحاب أن الاستصحاب أربعة أقسام; استصحاب حال العقل، واستصحاب حال العموم إلى ورود مخصص، واستصحاب حكم الإجماع، واستصحاب أمر دل الشرع على ثبوته في دوامه .




الخدمات العلمية