وأما المستند الثاني وهو كثرة الربا والمعاملات الفاسدة ، فهي أيضا كثيرة وليست ، بالأكثر إذ أكثر المسلمين يتعاملون بشروط الشرع ، فعدد هؤلاء أكثر ، والذي يعامل بالربا أو غيره ، فلو عددت معاملاته وحده لكان عدد الصحيح منها يزيد على الفاسد ، إلا أن يطلب الإنسان بوهمه في البلد مخصوصا بالمجانة والخبث وقلة الدين حتى يتصور أن يقال . معاملاته الفاسدة أكثر ، ومثل ذلك المخصوص نادر وإن كان كثيرا فليس بالأكثر ، لو كان كل معاملاته فاسدة كيف ولا يخلو هو أيضا عن معاملات صحيحة تساوي الفاسدة أو تزيد عليها ، وهذا مقطوع به لمن تأمله وإنما غلب هذا على النفوس لاستكثار النفوس الفساد واستبعادها إياه واستعظامها له ، وإن كان نادرا حتى ربما يظن أن الربا وشرب الخمر قد شاع كما شاع الحرام فيتخيل أنهم الأكثرون وهو ، خطأ ، فإنهم الأقلون ، وإن كان فيهم كثرة .
وأما المستند الثالث وهو أخيلها أن يقال : والنبات والحيوان حاصلان بالتوالد فإذا نظرنا إلى شاة مثلا ، وهي تلد في كل سنة فيكون عدد أصولها إلى زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم قريبا من خمسمائة ولا يخلو هذا أن يتطرق إلى أصل من تلك الأصول غصب أو معاملة فاسدة فكيف يقدر أن تسلم أصولها عن تصرف باطل إلى زماننا هذا وكذا بذور الحبوب والفواكه تحتاج إلى خمسمائة أصل أو ألف أصل مثلا إلى أول زمان الشرع ولا يكون هذا حلالا ما لم يكن أصله وأصل أصله كذلك إلى أول زمان النبوة حلالا ، وأما المعادن فهي التي يمكن نيلها على سبيل الابتداء وهي أقل الأموال وأكثر ما يستعمل منها الدراهم والدنانير ولا تخرج إلا من دار الضرب وهي في أيدي الظلمة مثل المعادن في أيديهم يمنعون الناس منها ، ويلزمون الفقراء استخراجها بالأعمال الشاقة ثم يأخذونها منهم غصبا فإذا نظر إلى هذا علم أن بقاء دينار واحد بحيث لا يتطرق إليه عقد فاسد . الأموال إنما تحصل من المعادن والنبات والحيوان
ولا ظلم وقت النيل ولا وقت الضرب في دار الضرب ولا بعده في معاملات الصرف ، والربا بعيد نادر أو محال فلا يبقى إذن حلال إلا الصيد والحشيش في الصحاري الموات والمفاوز والحطب المباح ثم من يحصله لا يقدر على أكله فيفتقر ، إلى أن يشتري به الحبوب والحيوانات التي لا تحصل إلا بالاستنبات والتوالد فيكون قد بذل حلالا في مقابلة حرام فهذا هو ، أشد الطرق تخيلا .
والجواب أن هذه الغلبة لم تنشأ من كثرة الحرام المخلوط بالحلال ، فخرج عن النمط الذي نحن فيه ، والتحق بما ذكرناه من قبل ، وهو تعارض الأصل والغالب إذ الأصل في هذه الأموال قبولها للتصرفات وجواز التراضي عليها وقد عارضه سبب غالب يخرجه عن الصلاح له فيضاهي هذا محل القولين رضي الله عنه في حكم النجاسات والصحيح عندنا أنه تجوز للشافعي إذا لم يجد فيها نجاسة فإن ، طين الشوارع طاهر وأن الوضوء من ، الصلاة في الشوارع جائز وأن أواني المشركين جائزة فثبت هذا أولا ثم نقيس ما نحن فيه عليه ، ويدل على ذلك توضؤ رسول الله صلى الله عليه وسلم من مزادة مشركة وتوضؤ عمر رضي الله عنه من جرة نصرانية مع أن مشربهم الخمر ومطعمهم الخنزير ولا يحترزون عما نجسه شرعنا فكيف تسلم أوانيهم من أيديهم بل نقول : نعلم قطعا أنهم كانوا يلبسون الفراء المدبوغة والثياب المصبوغة والمقصورة ومن تأمل أحوال الدباغين والقصارين والصباغين علم أن الغالب عليهم النجاسة ، وأن الطهارة في تلك الثياب محال أو نادر بل نقول : نعلم أنهم كانوا يأكلون خبز البر والشعير ولا يغسلونه مع أنه يداس بالبقر والحيوانات ، وهي تبول عليه وتروث وقلما يخلص منها وكانوا يركبون الدواب وهي تعرق وما كانوا يغسلون ظهورها مع كثرة تمرغها في النجاسات ، بل كل دابة تخرج من بطن أمها وعليها رطوبات نجسة قد تزيلها الأمطار ، وقد لا تزيلها وما كان يحترز عنها ، وكانوا يمشون حفاة في الطرق وبالنعال ويصلون معها ويجلسون على التراب ويمشون في الطين من غير حاجة وكانوا لا يمشون في البول والعذرة ، ولا يجلسون عليهما ويستنزهون منه ومتى تسلم الشوارع عن النجاسات مع كثرة الكلاب ، وأبوالها وكثرة الدواب وأرواثها ولا ينبغي أن نظن أن الأعصار أو الأمصار تختلف في مثل هذا ، حتى يظن أن الشوارع كانت تغسل في عصرهم أو كانت تحرس من الدواب هيهات فذلك معلوم استحالته بالعادة قطعا ، فدل على أنهم لم يحترزوا إلا من نجاسة مشاهدة أو علامة على النجاسة دالة على العين . الصلاة في المقابر المنبوشة
فأما الظن الغالب الذي يستثار من رد الدراهم إلى مجاري الأحوال ، فلم يعتبروه وهذا عند رحمه الله وهو يرى أن الماء القليل ينجس من غير تغير واقع إذ لم يزل الصحابة يدخلون الحمامات ويتوضئون من الحياض وفيها المياه القليلة والأيدي المختلفة تغمس فيها على الدوام وهذا قاطع في هذا الغرض ، ومهما ثبت جواز التوضؤ من جرة نصرانية ثبت جواز شربه والتحق حكم الحل بحكم النجاسة . الشافعي
فإن قيل : لا يجوز قياس الحل على النجاسة إذ كانوا يتوسعون في أمور الطهارات ويحترزون من شبهات الحرام غاية التحرز ، فكيف يقاس عليها قلنا : إن أريد به أنهم صلوا معها مع النجاسة والصلاة ، معصية ، وهي عماد الدين فبئس الظن بل يجب أن نعتقد فيهم أنهم احترزوا عن كل نجاسة وجب اجتنابها ، وإنما تسامحوا حيث لم يجب وكان في محل تسامحهم هذه الصورة التي تعارض فيها الأصل والغالب فبان أن الغالب الذي لا يستند إلى علامة تتعلق بعين ما فيه النظر مطرح وأما تورعهم في الحلال فكان بطريق التقوى ، وهو ترك ما لا بأس به مخافة ما به بأس ; لأن أمر الأموال مخوف والنفس تميل إليها إن لم تضبط عنها وأمر الطهارة ليس كذلك ، فقد امتنع طائفة منهم عن الحلال المحض خيفة أن يشغل قلبه وقد حكي عن واحد منهم أنه احترز من الوضوء بماء البحر ، وهو الطهور المحض فالافتراق في ذلك لا يقدح في الغرض الذي أجمعنا فيه على أنا نجري في هذا المستند على الجواب الذي قدمنا في المستندين السابقين ولا نسلم ما ذكروه من أن الأكثر هو الحرام ; لأن المال وإن كثرت أصوله فليس بواجب أن يكون في أصوله حرام ، بل الأموال الموجودة اليوم مما تطرق الظلم إلى أصول بعضها دون بعض ، وكما أن الذي يبتدأ غصبه اليوم هو الأقل بالإضافة إلى ما لا يغصب ولا يسرق ، فهكذا كل مال في كل عصر وفي كل ، أصل فالمغصوب من مال الدنيا ، والمتناول في كل زمان بالفساد بالإضافة إلى غيره أقل ، ولسنا ندري أن هذا الفرع بعينه من أي القسمين فلا نسلم أن الغالب تحريمه ، فإنه كما يزيد المغصوب بالتوالد يزيد غير المغصوب بالتوالد فيكون فرع الأكثر لا محالة في كل عصر وزمان أكثر ، بل الغالب أن الحبوب المغصوبة تغصب للأكل لا للبذر .