وإن فرض دنانير مضروبة من .دنانير السلطان فهو بالإضافة إلى مال التجار أقل لا محالة ، نعم ، السلطان يظلم أجراء دار الضرب بأن يأخذ منهم ضريبة لأنه خصصهم بها من بين سائر الناس حتى توفر عليهم مال بحشمة السلطان فما يأخذه السلطان عوض من حشمته وذلك من باب الظلم وهو قليل بالإضافة إلى ما يخرج من دار الضرب ، فلا يسلم لأهل دار الضرب والسلطان من جملة ما يخرج منه من المائة واحد ، وهو عشر العشير ، فكيف يكون هو الأكثر ، فهذه أغاليط سبقت إلى القلوب بالوهم وتشمر لتزيينها جماعة ممن رق دينهم حتى قبحوا الورع وسدوا بابه ، واستقبحوا تمييز من يميز بين مال ومال ، وذلك عين البدعة والضلال .
فإن قيل : فلو قدر ، فماذا تقولون فيه إذا لم يكن في العين المتناولة علامة خاصة فنقول : الذي نراه أن تركه ورع ، وأن أخذه ليس بحرام ; لأن الأصل الحل ولا يرفع إلا بعلامة معينة كما في طين الشوارع ونظائرها بل أزيد ، وأقول : لو غلبة الحرام وقد اختلط غير محصور بغير محصور حتى علم يقينا أنه لم يبق في الدنيا حلال لكنت أقول نستأنف تمهيد الشروط من وقتنا ونعفو عما سلف ونقول : ما جاوز حده انعكس إلى ضده فمهما حرم الكل حل الكل ، وبرهانه أنه إذا وقعت هذه الواقعة فالاحتمالات خمسة . طبق الحرام الدنيا
; أحدها أن يقال : يدع الناس الأكل حتى يموتوا من عند آخرهم .
الثاني : أن يقتصروا منها على قدر الضرورة وسد الرمق يزجون عليها أياما إلى الموت .
. الثالث : أن يقال : يتناولون قدر الحاجة كيف شاءوا سرقة وغصبا وتراضيا من غير تمييز بين مال ومال ، وجهة وجهة .
. الرابع : أن يتبعوا شروط الشرع ، ويستأنفوا قواعده من غير اقتصار على قدر الحاجة .
الخامس : أن يقتصروا مع شروط الشرع على قدر الحاجة .
أما الأول فلا يخفى بطلانه .
وأما الثاني ، فباطل قطعا ; لأنه إذا اقتصر الناس على سد الرمق وزجوا أوقاتهم على الضعف فشا فيهم الموتان وبطلت الأعمال والصناعات وخربت الدنيا بالكلية ، وفي خراب الدنيا خراب الدين ; لأنها مزرعة الآخرة وأحكام الخلافة والقضاء والسياسات ، بل أكثر أحكام الفقه مقصودها حفظ مصالح الدنيا ليتم بها مصالح الدين .
وأما الثالث : وهو الاقتصار على قدر الحاجة من غير زيادة عليه مع التسوية بين مال ومال بالغصب والسرقة والتراضي وكيفما اتفق فهو رفع لسد الشرع بين المفسدين وبين أنواع الفساد فتمتد الأيدي بالغصب والسرقة وأنواع الظلم ولا يمكن زجرهم منه إذ يقولون ليس يتميز صاحب اليد باستحقاق عنا فإنه حرام عليه ، وعلينا وذو اليد له قدر الحاجة فقط فإن كان هو محتاجا فإنا أيضا محتاجون ، وإن كان الذي أخذته في حقي زائدا على الحاجة فقد سرقته ممن هو زائد على حاجته يومه وإذا لم يراع حاجة اليوم والسنة ، فما الذي نراعي وكيف ، يضبط ، وهذا يؤدي إلى بطلان سياسة الشرع وإغراء أهل الفساد بالفساد فلا يبقى إلا الاحتمال الرابع وهو أن يقال : كل ذي يد على ما في يده وهو أولى به لا ، يجوز أن يؤخذ منه سرقة وغصبا بل يؤخذ برضاه والتراضي هو طريق الشرع وإذا لم يجز إلا بالتراضي ، فللتراضي أيضا منهاج في الشرع تتعلق به المصالح فإن لم يعتبر فلم يتعين أصل التراضي وتعطل تفصيله .
وأما الاحتمال الخامس ، وهو الاقتصار على قدر الحاجة مع الاكتساب بطريق الشرع من أصحاب الأيدي فهو الذي نراه لائقا بالورع لمن يريد سلوك طريق الآخر ولكن لا وجه لإيجابه على الكافة ولا لإدخاله في فتوى العامة ; لأن أيدي الظلمة تمتد إلى الزيادة على قدر الحاجة في أيدي الناس ، وكذا أيدي السراق وكل من غلب سلب وكل من وجد فرصة سرق ، ويقول لا حق له إلا في قدر الحاجة ، وأنا محتاج ولا يبقى إلا أن يجب على السلطان أن يخرج كل زيادة على قدر الحاجة من أيدي الملاك ويستوعب بها أهل الحاجة ويدر على الكل الأموال يوما فيوما أو سنة فسنة ، وفيه تكليف شطط وتضييع أموال ، أما تكليف الشطط ، فهو أن السلطان لا يقدر على القيام بهذا مع كثرة الخلق ، بل لا يتصور ذلك أصلا .