فهذه والحزم الاحتراز بالعزلة وترك الاستكثار من الأصحاب ما أمكن بل الذي يطلب الدنيا بتدريسه وتعليمه فالصواب له إن كان غافلا في مثل هذا الزمان أن يتركه . آفات قد نبهنا عليها في كتاب العلم
فلقد صدق أبو سليمان الخطابي حيث قال دع الراغبين في صحبتك والتعلم منك فليس لك منهم مال ولا جمال إخوان العلانية أعداء السر إذا لقوك تملقوك وإذا غبت عنهم سلقوك من أتاك منهم كان عليك رقيبا وإذا خرج كان عليك خطيبا أهل نفاق ونميمة وغل وخديعة فلا تغتر باجتماعهم عليك فما غرضهم العلم بل الجاه والمال وأن يتخذوك سلما إلى أوطارهم وأغراضهم وحمارا في حاجاتهم إن قصرت في غرض من أغراضهم كانوا أشد أعدائك ثم يعدون ترددهم إليك دالة عليك ويرونه حقا واجبا لديك ويفرضون عليك أن تبذل عرضك وجاهك ودينك لهم فتعادي عدوهم وتنصر قريبهم وخادمهم ووليهم وتنتهض لهم سفيها وقد كنت فقيها وتكون لهم تابعا خسيسا بعد أن كنت متبوعا رئيسا. .
ولذلك قيل : اعتزال العامة مروءة تامة .
فهذا معنى كلامه وإن خالف بعض ألفاظه وهو حق وصدق .
فإنك ترى المدرسين في رق دائم وتحت حق لازم ومنة ثقيلة ممن يتردد إليهم فكأنه يهدي تحفة إليهم ويرى حقه واجبا عليهم .
وربما لا يختلف إليه ما لم يتكفل برزق له على الإدرار .
ثم إن المدرس المسكين قد يعجز عن القيام بذلك من ماله فلا يزال مترددا إلى أبواب السلاطين ويقاسي الذل والشدائد مقاساة الذليل المهين حتى يكتب له على بعض وجوه السحت مال حرام ثم لا يزال العامل يسترقه ويستخدمه ويمتهنه ويستذله إلى أن يسلم إليه ما يقدره نعمة مستأنفة من عنده عليه ثم يبقى في مقاساة القسمة على أصحابه إن سوى بينهم مقته المميزون ونسبوه إلى الحمق وقلة التمييز والقصور عن درك مصارفات الفضل والقيام بمقادير الحقوق بالعدل وإن فاوت بينهم سلقه السفهاء بألسن حداد وثاروا عليه ثوران الأساود والآساد فلا يزال في مقاساتهم في الدنيا وفي مطالبة ما يأخذه ويفرقه عليهم في العقبى .
والعجب أنه مع هذا البلاء كله يمني نفسه بالأباطيل ويدليها بحبل الغرور ويقول لها لا تفتري عن صنيعك فإنما أنت بما تفعلينه مريدة وجه الله تعالى ، ومذيعة شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم وناشرة علم دين الله وقائمة بكفاية طلاب العلم من عباد الله وأموال السلاطين لا مالك لها وهي مرصدة للمصالح وأي مصلحة أكبر من تكثير أهل العلم فبهم يظهر الدين ويتقوى أهله .
ولو لم يكن ضحكة للشيطان لعلم بأدنى تأمل أن فساد الزمان لا سبب له إلا كثرة أمثال أولئك الفقهاء الذين يأكلون ما يجدون ولا يميزون بين الحلال والحرام فتلحظهم أعين الجهال ويستجرئون على المعاصي باستجرائهم اقتداء بهم واقتفاء لآثارهم .
ولذلك قيل : ما فسدت الرعية إلا بفساد الملوك وما فسدت الملوك إلا بفساد العلماء .
فنعوذ بالله من الغرور والعمى فإنه الداء الذي ليس له دواء .