الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ومن أقل صفات أحوال هؤلاء أكلهم أموال السلاطين وأكل الحرام من الكبائر فلا تبقى معه العدالة والصلاح ولو تصور صوفي فاسق لتصور صوفي كافر وفقيه يهودي .

وكما أن الفقيه عبارة عن مسلم مخصوص ، فالصوفي عبارة عن عدل مخصوص لا يقتصر في دينه على القدر الذي يحصل به العدالة .

وكذلك من نظر إلى ظواهرهم ولم يعرف بواطنهم وأعطاهم من ماله على سبيل التقرب إلى الله تعالى حرم عليهم الأخذ وكان ما أكلوه . سحتا وأعني به إذا كان المعطي بحيث لو عرف بواطن أحوالهم ما أعطاهم فأخذ المال بإظهار التصوف من غير اتصاف بحقيقته كأخذه بإظهار نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل الدعوى ومن زعم أنه علوي وهو كاذب وأعطاه مسلم مالا لحبه أهل البيت ولو علم أنه كاذب لم يعطه شيئا فأخذه على ذلك حرام وكذلك الصوفي .

ولهذا احترز المحتاطون عن الأكل بالدين فإن المبالغ في الاحتياط لدينه لا ينفك في باطنه عن عورات لو انكشفت للراغب في مواساته لفترت رغبته عن المواساة .

فلا جرم كانوا لا يشترون شيئا بأنفسهم مخافة أن يسامحوا لأجل دينهم فيكونوا قد أكلوا بالدين .

وكانوا يوكلون من يشتري لهم ويشترطون على الوكيل أن لا يظهر أنه لمن يشتري .

نعم إنما يحل أخذ ما يعطى لأجل الدين إذا كان الأخذ بحيث لو علم المعطي من باطنه ما يعلمه الله تعالى لم يقتض ذلك فتورا في رأيه فيه والعاقل المنصف يعلم من نفسه أن ذلك ممتنع أو عزيز والمغرور الجاهل بنفسه أحرى بأن يكون جاهلا بأمر دينه فإن أقرب الأشياء إلى قالبه قلبه فإذا التبس عليه أمر قلبه فكيف ينكشف له غيره ومن عرف ، هذه الحقيقة لزمه لا محالة أن لا يأكل إلا من كسبه ليأمن من هذه الغائلة أو لا يأكل إلا من مال من يعلم قطعا أنه لو انكشف له عورات باطنه لم يمنعه ذلك عن مواساته .

فإن اضطر طالب الحلال ومريد طريق الآخرة إلى أخذ مال غيره فليصرح له وليقل : إنك إن كنت تعطيني لما تعتقده في من الدين فلست مستحقا لذلك ولو كشف الله تعالى ستري لم ترني بعين التوقير بل اعتقدت أني شر الخلق أو من شرارهم فإن أعطاه مع ذلك فليأخذ فإنه ربما يرضى منه هذه الخصلة وهو اعترافه على نفسه بركاكة الدين وعدم استحقاقه لما يأخذه .

ولكن ههنا مكيدة للنفس بينة ومخادعة فليتفطن لها وهو أنه قد يقول ذلك مظهرا أنه متشبه بالصالحين في ذمهم نفوسهم واستحقارهم لها ونظرهم إليها بعين المقت والازدراء فتكون صورة الكلام صورة القدح والازدراء وباطنه وروحه هو عين المدح والإطراء فكم من ذام نفسه وهو لها مادح بعين ذمه فذم النفس في الخلوة مع النفس هو المحمود .

وأما الذم في الملأ فهو عين الرياء إلا إذا أورده إيرادا يحصل للمستمع يقينا بأنه مقترف للذنوب ومعترف بها .

وذلك مما يمكن تفهيمه بقرائن الأحوال ويمكن تلبيسه بقرائن الأحوال .

والصادق بينه وبين الله تعالى يعلم أن مخادعته لله عز وجل أو مخادعته لنفسه محال فلا يتعذر عليه الاحتراز عن أمثال ذلك. .

فهذا هو القول في أقسام السفر ونية المسافر وفضيلته .

التالي السابق


(ومن أقل صفات أحوال هؤلاء أكلهم أموال السلاطين) الحاصلة من الجبايات والمكوس وغيرها ولا شك في حرمتها (وأكل الحرام من الكبائر فلا تبقى معه العدالة والصلاح) فكيف يطلق على هؤلاء اسم الصوفية، (ولو تصور صوفي فاسق) غير عدل (لتصور صوفي كافر وفقيه يهودي، وكما أن الفقيه عبارة عن مسلم مخصوص، فالصوفي أيضا عبارة عن عدل مخصوص لا يقتصر في دينه على القدر الذي تحصل به العدالة) فقط، بل يتعداه (وكذلك من نظر إلى ظواهرهم) من حسن الحال (ولم يعرف بواطنهم) وما فيها من الخبث (وأعطاهم من ماله على سبيل التقرب إلى الله تعالى حرم عليهم الأخذ) من ذلك المال (وكان ما أكلوا سحتا وأعني به إذا كان المعطي بحيث لو عرف بواطن أحوالهم) الخبيثة (ما أعطاهم) لأن مثله مما لا يتقرب به .

(فأخذ المال بإظهار التصوف) من نفسه (من غير اتصاف بحقيقته) ولا تحقق بوصفه (كأخذه بإظهار نسب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لنفسه على سبيل الدعوى) واللحوق (ومن زعم أنه علوي) أي: من أولاد علي بواسطة أحد أولاده الخمسة الحسن والحسين ومحمد والعباس وعمر (وهو كاذب) في دعواه وزعمه (وأعطاه مسلم مالا بحب أهل البيت) النبوي (ولو علم أنه كاذب) في انتسابه (لم يعطه شيئا فأخذه على ذلك حرام وكذلك الصوفي) فمن زعم أنه كذلك ولم يكن كذلك وأعطي بذلك الاسم لم يجز له أخذه، (ولهذا احترز المحتاطون) في دينهم (عن الأكل بالدين) أي: بمقابلته، (فإن المبالغ في الاحتياط لدينه لا ينفك في باطنه عن عورات) ومعائب (لو انكشفت للراغب في مواساته افترت) أي: سكنت (رغبته عن المواساة فلا جرم كانوا لا يشترون شيئا) في الأسواق (بأنفسهم مخافة أن يسامحوا) أي: يرى صلاحهم وشهرتهم فيسامح لهم (لأجل دينهم) وصلاحهم (فيكونوا قد أكلوا بالدين وكانوا يوكلون من يشتري لهم ويشترطون على الوكيل أن لا يظهر) للبائع (أنه لمن يشتري) لئلا يتسامح فيه، (نعم إنما يحل لهم أخذ ما يعطى لأجل الدين إذا كان الآخذ بحيث لو علم المعطي) أي: صاحب العطاء (من باطنه ما يعلمه الله تعالى لم يقتض ذلك فتورا في رأيه) ، وفي نسخة: لم يقض بدل لم يقتض .

(والعاقل المنصف يعلم من نفسه أن ذلك ممتنع أو عزيز) نادر (والمغرور الجاهل بنفسه أحرى أن يكون جاهلا بأمر دينه فإن أقرب الأشياء) إليه (قلبه فإذا التبس عليه أمر قلبه فكيف ينكشف له أمر غيره، ومن عرف هذه الحقيقة لزمه لا محالة أن لا يأكل إلا من كسبه) أي: من كسب يده فقد ورد في الخبر: أحل ما أكل العبد من كسب يده ليأمن هذه الغائلة أو لا يأكل إلا من مال من يعلم قطعا أنه لو انكشفت له عورات باطنه لم يمنعه ذلك عن مواساته، ووجدان مثل هذا عزيز في كل الأعصار (فإن اضطر [ ص: 397 ] طالب الحلال ومريد الآخرة إلى أخذ مال غيره فليصرح له) عن حقيقة حاله (وليقل: إنك إن كنت تعطيني لما تعتقده في من الدين) والصلاح والنسب (فلست مستحقا لذلك ولو كشف الله ستري لم ترني بعين التوقير) والتعظيم (بل اعتقدت) في أني (شر الخلق) الموجودين (أو من شرارهم) أو من المقصرين في خدمة المولى أو نحو ذلك .

(فإن أعطاه مع ذلك فليأخذ فإنه ربما يرتضي منه) هذه (الخصلة وهو اعترافه على نفسه بركاكة الدين) أي: ضعفه (وعدم استحقاقه لما يأخذه) أو اعترافه بأنه ليس له تعلق بالنسب النبوي وأنه ليس بمتحقق فيه فلا يكون مستحقا لما أعطي لأجل ذلك المتعلق (ولكن ههنا مكيدة للنفس) خفية (ومخادعة) دقيقة (فليتفطن لها وهو أن يقول ذلك مظهرا أنه متشبه بالصالحين) من السلف (في ذمهم نفوسهم) الأمارة (واستحقارهم لها ونظرهم إليها بعين المقت والإزراء) أي: الاحتقار (فتكون صورة الكلام) في الظاهر (صورة القدح والازدراء وباطنه وروحه عين المدح والإطراء) أي: المبالغة في الثناء .

(فكم من ذام نفسه) في المجالس (وهو لها مادح بعين ذمه) وهذه الدسيسة قلما يدركها إلا المستبصرون (فذم النفس في الخلوة) عن الناس (مع النفس) بأن يخاطبها ويذكر لها عيوبها فيقول: أنت كذا وفعلت كذا وكذا (هو المحمود) النافع (فأما الذم في الملأ) من الناس (فهو عين الرياء إلا إذا أورده إيرادا يحصل للمستمع يقينا بأنه مقترف للذنوب) مرتكب لما لا يحل (ومعترف بها) أي: مقر (وذلك مما يمكن تفهمه وممكن) أيضا تلبيسه (بقرائن الأحوال) القائمة .

(والصادق بينه وبين الله تعالى يعلم أن مخادعته لله تعالى إذ مخادعته لنفسه محال فلا يتعذر عليه الاحتراز عن أمثال ذلك .

فهذا هو القول في أقسام السفر ونية المسافر وفضيلته) وبه تم الفصل الأول من الكتاب .




الخدمات العلمية