الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فأشار بهذا إلى أن الإيثار هو القيام بحق الله في الصحبة .

وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بئر يغتسل عندها فأمسك حذيفة بن اليمان الثوب وقام يستر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اغتسل ثم جلس حذيفة ليغتسل فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الثوب وقام يستر حذيفة عن الناس فأبى حذيفة ، وقال : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ا تفعل ، فأبى عليه السلام إلا أن يستره بالثوب حتى اغتسل .

وقال صلى الله عليه وسلم : ما اصطحب اثنان قط إلا كان أحبهما إلى الله أرفقهما بصاحبه .

وروي أن مالك بن دينار ومحمد بن واسع دخلا منزل الحسن وكان غائبا فأخرج محمد بن واسع سلة فيها طعام من تحت سرير الحسن ، فجعل يأكل ، فقال له مالك : كف يدك حتى يجيء صاحب البيت فلم يلتفت محمد إلى قوله وأقبل على الأكل وكان مالك أبسط منه وأحسن خلقا فدخل الحسن وقال : يا مويلك هكذا كنا لا يحتشم بعضنا بعضا حتى ظهرت أنت وأصحابك .

وأشار بهذا إلى أن الانبساط في بيوت الإخوان من الصفاء في الأخوة كيف وقد قال الله تعالى: أو صديقكم وقال أو ما ملكتم مفاتحه إذ كان الأخ يدفع مفاتيح بيته إلى أخيه ويفوض له التصرف كما يريد وكان أخوه يتحرج عن الأكل بحكم التقوى حتى أنزل الله تعالى هذه الآية وأذن لهم في الانبساط في طعام الإخوان والأصدقاء .

التالي السابق


قلت: وقد يستأنس به ما يقوله العامة: النبي سأل عن صحبة ساعة (فأشار بهذا إلى أن الإيثار هو القيام بحق الله في الصحبة وخرج -صلى الله عليه وسلم- إلى بئر يغتسل عندها فأمسك حذيفة بن اليمان) -رضي الله عنه- (الثوب على النبي) - صلى الله عليه وسلم- (ونشره) أي: ستره له حتى اغتسل ثم جلس حذيفة لكي يغتسل فتناول النبي -صلى الله عليه وسلم- (الثوب وقام يستر حذيفة من الناس فأبى حذيفة، وقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله لا تفعل، فأبى -صلى الله عليه وسلم- إلا أن يستره بالثوب حتى يغتسل) هكذا أورده صاحب القوت، قال العراقي: لم أقف له على أصل، قلت: أخرجه ابن أبي عاصم في الوحدان (وقال صلى الله عليه وسلم: ما اصطحب اثنان قط إلا كان أحبهما إلى الله أرفقهما لصاحبه) وفي نسخة: أوفقهما، تقدم هذا الحديث في الباب الذي قبله بلفظ: أشدهما حبا لصالحه .

(وروي أن مالك بن دينار) أبا يحيى (ومحمد بن واسع) بن جابر الأزدي أبا بكر (دخلا منزل الحسن) البصري (وكان) الحسن (غائبا فأخرج) محمد بن واسع (سلة فيها طعام من تحت سرير الحسن، فجعل يأكل، فقال له مالك: كف) ، أي: احبس (يدك حتى يجيء صاحب المنزل) يعني: الحسن (فلم يلتفت محمد إلى قوله وأقبل على الأكل وكان) محمد (أبسط منه) أي: أكثر بسطا من مالك (وأحسن خلقا) وفي بعض نسخ القوت: وأحسن ظنا (فدخل الحسن، فقال: يا مويلك) تصغير مالك يريد مالك بن دينار (وهكذا كنا) ، وفي بعض النسخ: ما هكذا كنا (كنا لا يحتشم بعضنا من بعض حتى ظهرت أنت وأصحابك) يعني بقوله هكذا كنا أهل الصفة؛ لأن يسارا والد الحسن كان مولى أم سلمة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان خادما للصفة، وقوله: ظهرت أنت وأصحابك يعني الصوفية الذين ظهروا بعد القرن الذي كانوا بعد أهل الصفة لبسوا الصوف تشبيها بسيما [ ص: 208 ] أهل الصفة وتأسيا بشمائلهم فنسبوا إليه (وأشار إلى هذا أن الانبساط في بيوت الإخوان من الصفاء في الأخوة) أي: من علاماته الدالة عليه (وكيف لا وقد قال تعالى) ( أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم ) فقد ضم الصديق إلى الأهل ووصله بهم، ثم رفع الأخ وقدمه على الصديق، وكان يقال: صحبة سنة أخوة ومعرفة عشر سنين قرابة (إذ كان الأخ يدفع مفتاح) خزائن (بيته إلى أخيه) ويتصرف في الحضر وينقلب في السفر (ويفوض إليه التصرف كما يريد) فيقول له: حكمك فيما أملك كحكمي، وملكي له كملكك (وكان أخوه) يتضايق (ويتحرج عن الأكل) فيقتر على نفسه لأجل غيبة أخيه ويقول: لو كان حاضرا لاتسعت وأكلت ولا أدرى مقدار ما أذن فيه ولعله يكره إن أكثرت، وذلك بحكم التقوى والورع الذي فيه والنصح والإيثار لأخيه (حتى أنزل الله هذه الآية) رحمة على تضايقهما وشكرا لتورعهما (وأذن لهم في الانبساط في طعام الإخوان والأصدقاء) فقال -جل وعلا- ولا على أنفسكم أي: لا إثم ولا ضيق أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم ثم نسق الأقارب على ترتيب الأحكام وضم إليهم الأخ كما وصفه بتمليكه مفاتحه أخاه، فأقام ذلك مقام أخيه؛ لأنه أقام أخاه مقامه أو قال: "ما ملكتم مفاتحه" ثم أخر الصديق بعده؛ إذ لم يكن بحقيقة وصفه، ثم قال -عز وجل-: ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا بحضرة الإخوان أو "أشتاتا" حال تفرقهم فسوى بين غيبتهم ومشهدهم لتسوية إخوانهم بينهم وبين أملاكهم واستواء قلوبهم مع ألسنتهم في البذل والمحبة لتناول المبذول، وهذا تحقيق وصفه لهم في قوله تعالى: وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون أي: هم في الأمر والإنفاق سواء .




الخدمات العلمية