الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 390 ] 213 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في استغفاره يوم الحديبية للمحلقين مرتين وللمقصرين مرة

1362 - حدثنا يونس قال : أخبرنا ابن وهب أن مالكا حدثه ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : اللهم ارحم المحلقين ! قالوا : والمقصرين يا رسول الله ؟ قال : اللهم ارحم المحلقين ! قالوا : والمقصرين يا رسول الله ؟ قال : والمقصرين .

1363 - حدثنا فهد قال : حدثنا محمد بن سعيد بن الأصبهاني قال : حدثنا محمد بن فضيل ، عن عمارة بن القعقاع ، عن أبي زرعة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اللهم اغفر للمحلقين ! قيل : والمقصرين ؟ قال : اللهم اغفر للمحلقين ! قيل : والمقصرين ؟ قال : والمقصرين .

[ ص: 391 ] قال أبو جعفر : ففي هذا الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استغفر للمحلقين مرتين وللمقصرين مرة . قال قائل : قد أباح الله عز وجل في كتابه الحلق والتقصير في الإحرام ، ووصف أهل الحديبية بدخولهم المسجد الحرام عليه ووعدهم ذلك فقال : لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون . فكان "المحلقين" بأمر الله حلقوا ، والمقصرين" بأمر الله قصروا - فمن أين فضل المحلقون في ذلك على المقصرين ؟

قيل له : لمعنى قد روي عن عبد الله بن عباس فيه .

1364 - وهو ما قد حدثنا الربيع بن سليمان المرادي قال : حدثنا أسد بن موسى قال : حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة قال : حدثنا ابن إسحاق قال : حدثني عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : حلق رجال يوم الحديبية وقصر آخرون ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يرحم الله المحلقين ! قالوا : يا رسول الله ، والمقصرين ؟ قال : يرحم الله المحلقين ! قالوا : يا رسول الله ، والمقصرين ؟ قال : يرحم الله المحلقين ! قالوا : يا رسول الله ، والمقصرين ؟ قال : والمقصرين . قالوا : فما بال المحلقين ظاهرت لهم بالترحم ؟ قال : إنهم لم يشكوا .

[ ص: 392 ]

1365 - وما قد حدثنا فهد بن سليمان قال : حدثنا يوسف بن بهلول قال : حدثنا عبد الله بن إدريس قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، ثم ذكر بإسناده مثله .

1366 - - [ وما قد حدثنا ] إبراهيم بن أبي داود قال : حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير الهمداني قال : حدثنا يونس بن بكير قال : حدثنا ابن إسحاق ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : قلت لابن عباس : لم ظاهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة ؟ قال : لأنهم لم يشكوا .

فكان فيما روينا تفضيل المحلقين على المقصرين ؛ لأنهم لم [ ص: 393 ] يشكوا ، فكان في ذلك إثبات الشك من المقصرين .

فقال هذا القائل : وما كان شك المقصرين في ذلك ؟ قيل له : كان لمعنى ذكره جابر بن عبد الله .

1367 - وهو ما قد حدثنا عبيد بن رجال قال : حدثنا محمد بن يوسف أبو حمة قال : حدثنا أبو قرة موسى بن طارق ، عن زمعة بن صالح ، عن زياد بن سعد ، عن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : حلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية وحلق ناس كثير من أصحابه حين رأوه حلق ، وأمسك آخرون فقالوا : والله ما طفنا بالبيت ، فقصروا .

فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يرحم الله المحلقين ! فقال رجال : والمقصرين يا رسول الله ؟ قال : رحم الله المحلقين ! فقال رجال : والمقصرين يا رسول الله ؟ قال : رحم الله المحلقين ! قالوا : والمقصرين يا رسول الله ؟ قال : والمقصرين
.

فكان في هذا الحديث أنه كان في قلوبهم أنهم رأوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حلق في غير موضع الحلق الذي كانوا يعلمون الحلق فيه ، ويقفون عليه من شريعته ، وقد كان يجب عليهم أن يكون اقتداؤهم واتباعهم له فيما رأوه يفعله أوثق في قلوبهم مما تقدم علمهم له منه قبل ذلك ، وكانوا بذلك مقصرين في الواجب له عليهم - صلى الله عليه وسلم - في ذلك .

وكان [ ص: 394 ] الحالقون فاعلين لما يجب عليهم من امتثال فعله ، وترك التخلف عن القدوة به ، ففضلوا بذلك من تخلف عن مثله لا لفضل في الحلق على التقصير ، ولكن ؛ لأن السبق إلى المعرفة للأشياء يوجب الفضيلة للسابقين إليها كما وجب لأبي بكر رضي الله عنه بسبقه الناس إلى تصديقه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على إتيانه بيت المقدس من مكة ورجوعه منه إلى منزله بمكة في تلك الليلة حتى سمي بذلك الصديق وإن كان [ ص: 395 ] المؤمنون جميعا يشهدون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمثل ذلك إذا وقفوا عليه .

وكما استحق خزيمة بن ثابت الأنصاري أن جعلت شهادته شهادة رجلين ؛ لما شهد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الأعرابي أنه بايعه البعير الذي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابتاعه منه عند جحود الأعرابي ذلك . وعند قوله له : هلم شهيدا يشهد لك . فلما شهد له خزيمة بما شهد له به قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كيف شهدت ولم تكن معنا ؟ قال : شهدت بتصديقك . فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك شهادته بشهادة رجلين .

وسنذكر هذا الحديث بإسناده فيما بعد من كتابنا هذا إن شاء الله . والناس جميعا يشهدون بصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكن خزيمة لما سبقهم إلى ذلك استحق الفضيلة عليهم فيه .

فمثل ذلك المحلقون استحقوا الفضيلة على المقصرين بسبقهم إياهم إلى طاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقتدائهم به ، وأخذهم ما آتاهم إياه ، وانتفاء الشك من قلوبهم في ذلك ، وعلمهم أن ما عاينوا منه أولى بهم مما قد تقدم علمهم له منه مع أنا قد روينا أن المقصرين في ذلك إنما هما رجلان : أحدهما من قريش ، والآخر من الأنصار .

1368 - كما قد حدثنا إبراهيم بن مرزوق قال : حدثنا هارون بن إسماعيل الخزاز قال : حدثنا علي بن المبارك قال : حدثنا يحيى بن أبي كثير أن أبا إبراهيم حدثه [ ص: 396 ] عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية حلق ، وحلق أصحابه رؤوسهم غير رجلين : رجل من الأنصار ، ورجل من قريش .

قال أبو جعفر : ولم نجد هذا التبيان في حديث أحد ممن روى هذا الحديث عن يحيى بن أبي كثير غير علي بن المبارك . فأما الأوزاعي فلم يذكر ذلك في حديثه هذا ، عن يحيى .

1369 - كما حدثنا محمد بن عبد الله بن ميمون البغدادي قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، عن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي إبراهيم الأنصاري قال : حدثنا أبو سعيد الخدري قال : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يستغفر يوم الحديبية للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة .

قال أبو جعفر : وليس علي بن المبارك بدون الأوزاعي ، والله نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية