الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 155 ] 381 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله لصفوان بن أمية لما تصدق بردائه على سارقه منه بعد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطعه : فهلا قبل أن تأتيني به .

2382 - حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن يونس قال : حدثنا أبو كريب قال : حدثنا هاشم بن عبد الواحد ، عن يزيد بن عبد العزيز ، عن أشعث ، عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : جاء صفوان بن أمية إلى النبي صلى الله عليه وسلم برجل سرق رداءه من تحت رأسه وهو نائم ، فلم ينكر ذلك الرجل ، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقطع ، فقال صفوان : في هذا يقطع ؟ قال : فهلا قلت هذا قبل أن تأتيني .

[ ص: 156 ] قال : فإن أنكر منكر احتجاجنا بهذا الحديث لمكان أشعث بن سوار .

قيل له : إن أشعث ليس بمتروك الحديث ، وما تخلف عنه أحد من أئمة الحديث في زمنه حتى حدث عنه ، منهم : شعبة والثوري ، وقد حدث عنه من هو أجل من هذه الطبقة وهو أبو إسحاق السبيعي .

ولقد ذكر البخاري عن أبي بكر بن أبي الأسود عن عبد الرحمن بن [ ص: 157 ] مهدي قال : قال سفيان : أشعث أثبت عندي من مجالد ، وهذه رتبة جليلة .

2383 - وحدثنا يونس قال : حدثنا ابن وهب قال : حدثني مالك بن أنس ، عن ابن شهاب ، عن صفوان بن عبد الله بن صفوان أن صفوان بن أمية قيل له : من لم يهاجر هلك ، فقدم صفوان بن أمية المدينة فنام في المسجد وتوسد رداءه ، فجاء سارق فأخذ رداءه من تحت رأسه ، فأخذ صفوان السارق فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم أن تقطع يده ، فقالصفوان : إني لم أرد هذا ، هو عليه صدقة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فهلا قبل أن تأتيني به .

قال : هكذا روى ابن وهب وأكثر الناس هذا الحديث ، عن مالك ، وقد رواه شبابة بن سوار عنه بخلاف هذا الإسناد .

2384 - كما حدثنا محمد بن أحمد بن جعفر قال : حدثنا أبو [ ص: 158 ] بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا شبابة بن سوار قال : حدثنا مالك بن أنس ، عن ابن شهاب ، عن عبد الله بن صفوان ، عن أبيه صفوان بن أمية قيل له : إنه من لم يهاجر هلك ، فدعا براحلته فركبها حتى أتى المدينة ، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم فقال : قيل لي : إنه من لم يهاجر هلك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ذهبت الهجرة ، اذهب إلى بطحاء مكة ، فنام صفوان في المسجد ، ثم ذكر هذا الحديث كما ذكره ابن وهب عن مالك .

ووافق شبابة على هذا الإسناد في هذا الحديث أبو علقمة الفروي ، وإذا كان إسناد هذا الحديث كما ذكرنا احتمل أن يكون الزهري قد سمعه من عبد الله بن صفوان ، عن أبيه ، وسمعه من صفوان بن عبد الله فحدث به مرة هكذا ومرة هكذا ، كما يفعل في أحاديثه عن غيرهما ممن يحدث عنه .

فإن قال قائل : أفيتهيأ في سنه لقاء عبد الله بن صفوان ؟

قيل له : نعم ، ذلك غير مستنكر ؛ لأن عبد الله بن صفوان قتل مع عبد الله بن الزبير في اليوم الذي قتل فيه من سنة ثلاث وسبعين ، والزهري يومئذ سنه أربع عشرة سنة ؛ لأن مولده كان في السنة التي [ ص: 159 ] قتل فيها الحسين بن علي رضي الله عنهما ، وهي سنة إحدى وستين ، فقال قائل : فقد يجوز أن يكون عبد الله بن صفوان هو ابن عبد الله بن صفوان ، قيل له : ما نعلم لصفوان بن عبد الله بن صفوان ابنا أخذ عنه شيء من العلم ، وإنما عبد الله بن صفوان بن أمية .

2385 - وحدثنا محمد بن خزيمة قال : حدثنا حجاج بن منهال قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن قتادة وقيس وحبيب المعلم وحميد وعمارة ، عن عطاء ، عن صفوان بن أمية وحماد ، عن عمرو بن دينار ، عن طاوس أن صفوان بن أمية كان نائما في المسجد وتحت رأسه خميصة ، فجاء لص فانتزعها من تحت رأسه ، فأخذه فرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بقطعه ، فقال : يا رسول الله لا تقطعه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفلا قبل أن تأتينا به كنت تركته .

[ ص: 160 ] فنظرنا في هذا الحديث هل هو سماع لفظا من صفوان أم لا . ؟

2386 - فوجدنا أحمد بن شعيب قد حدثنا قال : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : حدثني أبي قال : حدثنا محمد بن جعفر ، عن سعيد ، وهو ابن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن طارق بن المرقع ، عن صفوان بن أمية ، ثم ذكر هذا الحديث .

فوقفنا بذلك على أن عطاء لم يأخذه عن صفوان وأنه إنما أخذه عن طارق هذا عن صفوان ، وإن كنا لا نعرف طارقا هذا .

2387 - حدثنا يونس قال : حدثنا سفيان ، عن عمرو ، عن طاوس قال : قيل لصفوان بن أمية : إنه لا دين لمن لم يهاجر قال : فقال : والله لا أصل إلى شيء حتى أهاجر إلى المدينة ، فأتى المدينة فنزل على العباس ، فبينا هو نائم في المسجد تحت رأسه خميصة له ، ثم ذكر هذا الحديث .

فنظرنا هل أخذه طاوس عن صفوان سماعا ؟

[ ص: 161 ]

2388 - فوجدنا أحمد بن شعيب قد حدثنا قال : حدثنا محمد بن داود المصيصي قال : حدثنا معلى بن أسد قال : حدثنا وهيب ، عن عبد الله بن طاوس ، عن أبيه ، عن صفوان بن أمية قال : قلت : يا رسول الله ، هذا سرق خميصة لي ، لرجل معه ، ثم ذكر هذا الحديث .

ثم نظرنا في سن طاوس ما يجوز أن يكون أخذ هذا الحديث عن صفوان سماعا منه ، فوجدنا وفاة صفوان كانت بمكة عند خروج الناس إلى الجمل ، ووجدنا وفاة طاوس كانت بمكة سنة ست ومائة ، وسنه يومئذ بضع وسبعون سنة ، فعقلنا بذلك أنه لا يحتمل أنه أخذه عن صفوان سماعا .

2389 - وحدثنا أبو أمية قال : حدثنا عمرو بن طلحة القناد قال : حدثنا أسباط بن نصر الهمداني ، عن سماك ، عن حميد ابن أخت صفوان بن أمية ، عن صفوان بن أمية قال : كنت نائما في المسجد على خميصة لي ثمن ثلاثين درهما ، فجاء رجل فاختلسها مني ، فأخذ الرجل فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فأمر به أن تقطع يده ، فأتيته فقلت : أتقطعه من أجل ثلاثين درهما ، أنا أبيعه وأنسئه ثمنها ، فقال : فهلا قبل أن تأتيني به .

[ ص: 162 ] وكان حميد هذا ممن لا يعرف ، ولم نجد في هذا الباب غير ما ذكرناه فيه مما في أسانيده ما قد ذكرناه فيها ، غير أنا وجدنا أهل العلم قد احتجوا بهذا الحديث ، فوقفنا بذلك على صحته عندهم ، كما وقفنا على صحة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم عندهم : لا وصية لوارث ، وكما وقفنا [ ص: 163 ] على صحة قوله عندهم : إذا اختلف المتبايعان في الثمن ، والسلعة قائمة ، تحالفا وترادا البيع ، وإن كان ذلك كله لا يقوم من جهة [ ص: 164 ] [ ص: 165 ] الإسناد ، فغنوا بصحته عندهم عن طلب الإسناد له ، فمثل ذلك حديث صفوان الذي ذكرنا لما احتجوا به جميعا غنوا بذلك عن الإسناد له ، ثم تأملنا قول النبي صلى الله عليه وسلم فيه لصفوان : أفلا قبل أن تأتيني به ، إذ كان أهل العلم يختلفون في هذه المسألة ، فطائفة منهم تقول : يقطع ، ولا يلتفت إلى ما كان من رب السرقة من الصدقة بها على السارق ، منهم : مالك والشافعي وكثير من أهل الحجاز سواهما ، وهو أحد [ ص: 166 ] أقوال أبي يوسف في ذلك .

ويختلفون في ذلك لو كان قبل أن يؤتى به الإمام ، فيقول الحجازيون الذين ذكرنا : يقطع ، ويوافقهم على ذلك ابن أبي ليلى .

ويقول أبو يوسف : لا يقطع .

وطائفة منهم تقول : لا يقطع في شيء من ذلك مع وقوع ملكه على السرقة قبل أن يصار به إلى الإمام وبعد أن يصار به إليه ، ومنهم : أبو حنيفة ومحمد بن الحسن ، وكان قول النبي صلى الله عليه وسلم لصفوان : أفلا قبل أن تأتيني به مما قد دل على أن الصدقة عليه بالمسروق قبل أن يصار به إلى الإمام حكمه خلاف حكم الصدقة بها عليه بعد أن يصار به إلى الإمام ، ولولا أن ذلك كذلك لما كان لقول النبي صلى الله عليه وسلم لصفوان أفلا قبل أن تأتيني به معنى .

وقد وجدنا أهل العلم لا يختلفون في السارق إذا أقر بالسرقة عند الإمام وذكر له مقدارها وسرقته إياها من حرزها وإخراجه إياها من ذلك الحرز من رجل غائب عنه لا رحم بينه وبينه أنه يقطع في ذلك وإن لم يخاصمه فيه رب السرقة ، ويختلفون إذا ادعيت عليه سرقة ثوب في يده يدعيه لنفسه ، وينكر أن يكون سرقه .

فيقول قائلون : لا خصومة في ذلك بينه وبين من يدعي ذلك عليه [ ص: 167 ] حتى يكون الذي يدعي ذلك عليه رب الثوب ، أو من يقوم فيه مقامه ، وممن يقول ذلك أبو حنيفة وأصحابه والشافعي .

وطائفة منهم تقول : من خاصمه في ذلك من الناس كان خصما له فيه ، منهم ابن أبي ليلى ومالك ، وكان القول عندنا في ذلك هو القول الأول ؛ لأنه لا يجوز أن يقضى بالسرقة لغائب ؛ ولأنه إذا لم يقض بها له ، كانت في الحكم لمن هي في يده ، فبطل أن يقطع فيها لذلك ، وإذا خاصمه فيها مالكها أو من يقوم مقامه فيها وأقام عليه البينة بملكه لها وسرقته إياها منه قضي له بها ، وقضي بالقطع على سارقها منه ، وأغنى الإمام عنه بعد ذلك ؛ لأن الحجة قد قامت عنده بوجوب القطع على سارقها ، كقيامها عليه عنده بإقراره بسرقته إياها ، فلم يحتج بعد ذلك إلى خصومته إليه فيها ، وكانت هبته إياها لسارقها ، وصدقته بها عليه ، وملكه لها من حيث ما ملكها لا يرفع القطع عليه فيها ، كما قاله أبو يوسف في ذلك ، والله عز وجل نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية